حسن الكعبي
ظاهرة الفردانية، من الظواهر الخطيرة المنتجة في عصر ما بعد الحداثة وتغولات الرأسمالية وتعزيز النزعة الاستهلاكية، بوصفها تعارضا مع فاعلية الفرد الانتاجية، والتأسيس للعزلة وهجران المجتمع، ومتضمناته القيمية، وهي بذلك مظهر خطير من مظاهر الاغتراب، المهددة للتماسك في المؤسسات الاجتماعية، وتقترن هذه الظاهرة بمفهوم ( اللامبالاة ) التي أصبحت من السّمات الاساسية الملازمة لطبيعة الفرد في عصر ما بعد الحداثة، ويتم التعامل مع هذا المفهوم – أي مفهوم اللامبالاة - كعرض مرضي خطير متحرر بشكل كامل عن مفهوم (النرجسيَّة) التي عززت طابع التحول للذات واتخاذها موطنا للكمون، ورفض التواصل مع المحيط الخارجي، وعدم تقبل الاستمرارية التاريخية، كشكل من أشكال العدمية المتقاطعة مع مقولة الفيلسوف الفرنسي - جان بول سارتر- التأسيسية (الجحيم هو الآخر ) .
في ظل هذا التحول والتبدل لمنظومة القيم والمتغيرات الثقافيَّة، تعززت ظاهرة الانسحاب من المسؤولية عن الآخر، ليحل بدلا من ذلك مشاعر البرودة في التعامل مع المجتمع وما يحيط به من الاحداث، مهما كانت اهميتها، ويلاحظ المرء مصاديق هذا التحول من خلال الاحداث الاخيرة ضمن المجازر غير المسبوقة التي ترتكبها الصهيونية بحق مواطني قطاع غزة الابرياء، وما يحفها من صمت كبير وبرودة عاطفية في المجتمع العربي، الذي يعد ( انموذجا ) ومجلى لسيادة هذا المفهوم، وتأسيسه للانهيار في البينة الاجتماعية، ومؤسساتها والتي من أهمهما المؤسسة التعليمية التي تشكل اللبنة الاساسية في البناء الاجتماعي وتجذير القيم الانسانية ضمنه .
ان الانهيار في المؤسسة التعليميَّة يشكل القاعدة والمتكئ قي الدراسات الاجتماعية التي تدرس الاشكاليات الاجتماعية وازماتها في اختبار الحداثة وارتكاساتها ضمن ظاهرة التخلف والانساق الرجعية وهيمنة انساق التطرف وسيادة المظاهر العصابية، وبمعنى أن هنالك تلازم بين البنية الاجتماعية والمؤسسات التعليمية في مسار التقدم والتطور او التراجع والتخلف وسيادة مظاهره وتفشيها ضمن هذه البنية .
وفي المجتمعات العربيّة والعراق - بشكل اخص - فان انهيار التعليم و سيطرة مشاعر القنوط من الجدوى التي يوفرها التعليم، قد أصبحت من المظاهر الواضحة التي يمكن ملاحظاتها بسهولة، ويعزى ذلك الانهيار إلى أسباب عدة، يتعلق بعضها بالإهمال والتجاهل الحكومي لأبسط متطلبات المؤسسة التعليميَّة من أزمة توفير المناهج الدراسية إلى أزمة الابنية المدرسية التي أدت إلى ظاهرة الدوام المزدوج والذي يعد من أهم التعضلات في التطور العلمي، ويندرج هذا الاهمال والتجاهل ضمن مفهوم ( اللامبالاة او قمة اللامبالاة ) بوصفها تخلي عن الحاجة إلى المعنى، وامكانية أن يعيش الإنسان دون اكتراث للمعنى، دون شجو ولا إحباط ولا تطلع إلى قيم جديدة، « كما يقول – جيل ليبوفتسكي – الذي يعزو هذا الانهيار إلى ظاهرة اللامبالاة التي تعني حسب - توصيفه - «امكانية أن يعيش الإنسان بلا هدف ولا معنى، فالإنسان المعاصر يريد أن يعيش الحاضر، ولم يعد يرغب بالعيش وفقاً للماضي والمستقبل، بمعنى فقدان معنى الاستمرارية التاريخية، وتآكل الإحساس بالانتماء إلى سلسلة من الأجيال المتجذرة في الماضي والممتدة في المستقبل .وهذه من السمات الاساسية التي بدأت تميز - كما يلاحظ - المجتمع الذي بدأ العيش من أجل نفسه، دون الاكتراث للتقاليد والقيم، ومن هنا يهجر المعنى التاريخي، وتهجر القيم والمؤسسات الاجتماعية» - أي أن الإنسان - يسعى لمحو ذاكرته التي تميزه كإنسان له امتداده في الصيرورة التاريخية، ليتحول إلى كائن غريزي يعيش لحظته ليماثل بذلك الحيوان، وقد سبق لــ(نيتشة ) ان عرف الحيوان بأنّه « كائن بلا ذاكرة}.
في سياق ذلك يبرز المجتمع النرجسي الذي يقدس العزلة ويؤكد على قيم التباعد والانفصال عن المجتمع وهذا ما يعني سيادة الثقافة النرجسيَّة باعتبارها كما يقول - جيل ليبوفتسكي - «وعي جديد للغاية وبنية عضوية في الشخصية ما بعد الحداثية، لذلك يتحتم أن نتصورها كنتيجة لعملية شاملة تنظم السير الاجتماعي، فالشخصية الجديدة للفرد تدعو إلى الاعتقاد بأن النرجسيَّة لا يمكن أن تنتج عن مجموعة متفرقة من الأحداث المؤقتة، وإن كان ذلك مصاحباً بشكل سحري للوعي. لقد ظهرت النرجسيَّة في الواقع من الهجر المعمم للقيم والغايات الاجتماعية، والراجع إلى عملية الشخصنة».
تقترن اللامبالاة بالاغتراب، لكن اللامبالاة كما يؤكد - ليبوفتسكي- اشمل من الاغتراب، فبدلا من التشيؤ الذي يعد أحد سمات الاغتراب وأبرز مظاهره، فان الانسحاب من المسؤولية يكون أهم سمات ظاهرة ( اللامبالاة او قمة اللامبالاة )، كما أن الاغتراب الذي ظهر في عصر الرأسمالية، هو ناتج سيطرة الرأسمالية السياسية، في حين أن( اللامبالاة) هي ناتج سلطة الرأسمالية الاستهلاكية والنزعات المتعوية، ومسعى الفرد لتحقيق ملذاته الذاتية، ضمن نطاق الفردانية.
يمكن تفسير انهيار التعليم في نطاق تبدل القيم وسيادة النرجسيات ضمن مفهومي (غياب الهدفية واللامعني والانسحاب من المسؤولية )،ففي نطاق مفهوم غياب الهدفية واللا معنى، تفسر ظاهرة التعلم لدى الطالب في نطاق الرغبة الربحية التي يوفرها التعليم، بعيدا عن هاجس التعلم والمعرفة، وهذا ما يفسر ظاهرة غياب تنوع التخصصات والتحول إلى اختيار تخصص ربحي عند غالبية الطلبة ( الطب والهندسة مثلا) وهجران تخصصات أقل ربحا، وهذه الظاهرة تفسر أزمة توافر الطواقم الوظيفية ضمن النطاق التربوي التعليمي والمؤسسات الخدمية الأخرى، وفي نطاق الانسحاب من المسؤولية، يمكن تفسير ظاهرة الرغبة في التقاعد كهاجس مسيطر على الوعي الوظيفي، اذ تبقى تطلعات المدرسين والمعلمين والموظفين بشكل عام نحو التقاعد بوصفه تحريرا للموظف من مسؤولية العمل وتوفير مساحات زمنية للمتعة وتحقيق الرغبات الذاتية .
حيال هذا المزاج المسيطر على وعي الطالب ووعي المعلم، تتوجه النظرة إلى التعليم ليس كقيمة تربوية (بيداغوجية/ أخلاقية ومعرفية)، انما بصفته وسيلة من وسائل الوصول إلى الربح، كما تتوجه النظرة إلى المعلم كمتهرب من مسؤوليته، لا كرمز لقيمة تربوية ومعرفية وبذلك تنهار قيمة التقديس المتبادل بين المعلم والمتعلم “ وتتلاشى هيبة المدرسين وسلطتهم بشكل كامل، ويصبح التعليم كما يؤكد - جيل ليبوفتسكي – “ آلة تم تحييدها بسبب الفتور المدرسي الذي يظهر من خلال الاهتمام المشتت والارتياب غير المتحرج تجاه المعرفة “ ومن ثم فان التبني الخطير لمفاهيم (اللامبالاة والنرجسيَّة) ضمن المنظومة التعليميَّة سينسحب بأشكال أكثر خطورة على المجتمع.