الصربيَّة مارينا أبراموفيتش وجماليات فن البيرفورمانس

ثقافة 2023/11/01
...

 

حيدر علي كريم الأسدي



الصربية مارينا أبراموفيتش فنانة أداء ولدت في 30 نوفمبر 1946، تتمحور كل أعمالها حول العلاقة بين الأداء وتفاعل الجمهور، وحدود الجسد وطاقاته التعبيرية والرمزية، وإمكانيات تحريض المتلقي عبر شكل الأداء الجسدي ، هي تحاول أن تدمج الفنون الأدائية بوصفها وسيلة فنية تجريبية معاصرة، ممكن أن تؤثر في الجمهور وتدفعه للتفاعل والتأثر، وتميزت مارينا بهذه الخلطة الأدائية الجمالية حتى عرفت بجدَّة فن الأداء الجسدي لتخصصها بهذا النوع من الفن ، ولكن هل ما تقدمه مارينا هو فن أداء ؟ تمثل؟ تجارب اجتماعية ؟ أو حالة من حالات العزلة النفسية إزاء الآخر (المتلقي) ؟
هذا ما يمكن الوصول إليه من خلال الاطلاع على مجمع تجاربها سواء الاطلاع المباشر أو على الفيديوهات لتلك التجارب المنتشرة في كل المواقع، فمثلاً في عرضها الأخطر والأهم الموسوم بـ(الإيقاع) المقدم سنة 1973 استخدمت مارينا 20 سكيناً حادة، واثنين من المسجلات، لعبت لعبة روسية إذ تم توجيه شفرة السكين بشكل إيقاعي بين أصابع يدها، وفي كل مرة تقطع فيها نفسها، كانت تلتقط سكيناً جديداً من بين عشرين سكين مصطفة أعدتها مسبقاً، وقامت بتسجيل نفسها، وكررت العمل، مارينا تعد أحد أهم رواد فن البيرفورمانس (الأداء الفني)، المنتمي إلى مفاهيم الأداء التجريبي المعاصر، عروض مارينا مستفزة ومثيرة وفيها الكثير من المخاطرة ، وشكلت مع رفيقها الألماني (يولاي) هذه الرحلة من الاكتشاف الأدائي والمخاطرة بتجارب الأداء والعلاقة الأدائية الجسدية بينهما المبنية على المضمرات السيكولوجية والسيسولوجية التي يرغبان بفضحها أو محاولة إثارة الجمهور ضدها  بوصفهما ذواتاً مستقلة وإنما وسائل تعبير عن الآخر ، هي تستخدم الجسد بوصفه خامة فنية ومثير دلالي ورمزي عبر الحركات والصمت ولغة التشكلات التي يصنعها جسدها (المحتج) على كل مظاهر الزيف المجتمعي والتناقضات النفسية للأفراد، ولا يمكن إغفال الخطورة المادية التي تسببها مارينا لجسدها في هذه العروض ، حتى أنها كادت تفقد حياتها أثناء تنفيذ أحد عروضها الأدائية الفنية، إذ تعرضت إلى الاختناق تحت ستار من النيران ، وفي عرض آخر وضعت على الطاولة 72 غرضاً، وكتبت للجمهور يمكنكم بها أن تقوموا بما تريدونه فيَّ وذلك في (برفورمان: .أنا غرض أو أنا سلعة) والذي امتد تقريباً لست ساعات متواصلة، وقد انقسمت الأغراض إلى فئتين (أغراض ممتعة) ( أغراض فتاكة) الترفيهية أو الممتعة تمثلت في باقات الورد والريس والفواكه والعطور والخبز، أما الأشياء الفتاكة فكانت سكيناً، مقصاً ، شريطاً حديدياً ، شفرات حلاقة، وصولاً إلى المسدس! وبعد بداية لطيفة مع مارينا المتسمِّرة في فضاء الأداء بدأت جوانب العنف تتصاعد حينما استل أحدهم سكيناً من الأغراض وجرحها في فخذها، وآخر حاول أن يعتدي عليها جسدياً، بل وصل البرفورمانس حدوده القصوى حينما أقدم أحدهم على تصويب المسدس المحشوّ صوب رأس مارينا ، وحينها تم إيقاف العرض، إذ أرادت مارينا أن توصل رسالة مفادها بأن الإنسان الطبيعي ممكن أن يقْدم على الشر ويرتكبه إذا ما أُتيحت له الحرية المطلقة في الأماكن العامة، ولعل أشهر أداء فني خطر قدمته مارينا هو (بقية الطاقة) الذي تمت تأديته في أمستردام وهو عبارة عن مشهد لمسك قوس نبال بسهم أمسكه رفيقها وحبيبها يولاي، بينما تمسك مارينا القوس، في مشهد مخيف وخطير، إذ يتوجه السهم مباشرة إلى قلب مارينا التي بقيت تمد القوس بكل قوة جسدها لمدة فاقت الأربع دقائق ، وكانت دقات قلبيهما واضحة من خلال ميكروفونات وضعت قرب قلبيهما ، وهو أداء يحاول أن يعيد تفكيك مفهوم الثقة التي تربط الأفراد فيما بينهم، وهو الذي من خلاله تُبنى المجتمعات وتتطور الأسر والصداقات، وكل منظومة العلاقات الإنسانية، أما عرض (نور وظلام) فقد قدم في غرفة مظلمة جلسا يصفع بعضهم الآخر في البداية ببطء ثم بشكل أسرع، تمثلاً لمشاعر الغضب والعدوان ومحاكاة للمسار النفسي الذي يدفع الأفراد للرد بالمثل بل وبقوة، فكلما كانت الصفعات أقوى كانت ردود الأفعال تماثلها بالقوة حتى تستنفد كل طاقتهما ويتوقفان، ويعد عمل (أحباء) من أهم أعمال يولاي ومارينا لأنهما اتفقا على إنهاء علاقتهما الشخصية وأن يودعا بعضهما في منتصف سور الصين، بعد أن يبدأ كل منهما رحلته من جانب مختلف، فقد استغرقت رحلتهما ثلاثة أشهر سيراً على الأقدام، افترقا بعد أن استمرت العلاقة الفنية والشخصية بينهما 12 عاماً درست خلالها مارينا الحياة الطقسية والشعائرية والثقافات المتعددة في أوروبا وقبائل أستراليا والهند وغيرها من البلدان مما انعكس روحياً في بعض عروضها الأدائية، ولكن عام 2010 بالتحديد في متحف الفن بنيويورك جلست مارينا لمدة ثلاثة أشهر وعلى مدار ستة أيام أسبوعياً وثماني ساعات يومياً على كرسي في حوار صامت أمام غرباء من أعراق وأجناس وثقافات مختلفة، ويحدقان ببعض بالعيون دون أن يَنْبَسْا بِبِنْتٍ شَفَةٍ، ولكن وبعد عشرين سنة على فراقهما حضر اولاي  المعرض دون علمها وكانت ردود الفعل عاطفية جداً.حللت المسرحية الألمانية إيريكا فيشر- ليشته في كتابها (جماليات الأداء : نظرية في علم جمال العرض) عرض (شفاه توماس) لمارينا أبراموفيش وقالت بأن أفعال مارينا : “قد أدخلت الجمهور في أزمة لا يمكن تخطِّيها وهي تشير إلى أنماط السلوك التقليدية”. ففي هذا العمل وضعت مارينا على الورق وصفاً للبيرفورمانس مثلت خطاطة جغرافية لما يمكن أن تفعله ويفعله الجمهور (بجسدها) بحالة أدائية عيانية تشكيلية واضحة ، ولساعتين متواصلتين ،لقد استطاعت مارينا ابراموفيتش أن تخلق من خلال عرضها موقفاً يجعل المتفرج عالقاً بين قواعد ومعايير الفن وقواعد ومعايير الواقع اليومي بين الضرورة الجمالية والضرورة الأخلاقية رغم أن بعض الثقافات تعد تعذيب الجسد ليس فقط فعلاً طبيعياً وإنما نموذج محمود ومثالي مثلما في بعض الطقوس والشعائر الدينية كما كان يحصل في الكنيسة خلال القرن 11 إذ كان الجلد الذاتي جزءاً من القداسة والمجال الثقافي الثاني الذي يقبل فيه التعذيب الذاتي هو حلقات الفرجة في الأسواق فالحيل قد تؤذي إلى مخاطر مثل حيل أكل النار أو بلع السيف أو ثقب اللسان، والسمة المميزة لهذا العرض هو تحول دور المتفرج من مراقب إلى مشارك في الحدث. أي أنها تخضع جسدها إلى مديات التحمل والضغط واختبار الألم والعنف لا على المستوى الذاتي وحسب وإن اتصفت بعض تلك السلوكيات بالإيروتيكية أو حتى المازوخية والسادية ، وإنما هي في الوقت ذاته مرمزات تحريضية فاضحة لبنى المجتمع وعلاقاته ، وبخاصة في أداء (العري) في عروضها (ملحمة البلقان مثلاً) الذي يمثل التاريخ الطقسي للعادات الصربية القديمة وعلاقتها بالخصب والإنماء وفي الوقت نفسه تتعلق بالتعرية (المعاصرة) للسلوك المجتمعي الغربي بصوره كافة، لتصل جرأتها أوَجها في أداء (بيت مواجهة على المحيط) عام 2022، بعد أن قضت 12 يوماً في معرض دون أكل أو تحدث أو كتابة تتنقل عبر ثلاثة أغراض بسلالم تؤدي إلى الطابق الأسفل ومصنوعة من سكاكين الجزارة! وهي تحاول أن تركز على الطقوس اليومية للحياة وعلاقتها بمفاهيم البساطة والنفس ، مجمل أعمال هذه الفنانة قد تبدو مازوخية أو سادية لما تمتلكه من لغة العنف ووحشية الموضوعات، لكنها تحاول أن تحرض المتلقي وتثيره إزاء الموضوعات التي تطرحها كجزء من رسالة الفنان في تحقيق اليقظة الواعية للمتفرج إزاء ما يحدث في الحياة، لذا بقيت عروضهاً الأدائية نافذة للحوار والجدل حتى الآن، لما تشتمل عليه من سمات أدائية مغايرة في البناء والتشكُّل الجمالي والفكري.