الرقابة الدستوريَّة على القاعدة والنص التشريعي

آراء 2023/11/01
...








 د. محمد يوسف السعدي


ينبغي التمييز بين النص والقاعدة؛ فكلاهما يُشكّل أفكاراً أساسية لنظرية التفسير القانوني، ويُعنى اصطلاح النص أو الوثيقة الرسمية بالمعنى الحرفي للنص، أي الصيغة اللغوية النصية، ويرتبط مصطلح (النص) بالوثيقة بكل ما تشتمل عليه الوثيقة من أجزاء، أو على الأقل ما تشتمل عليه تلكم الأجزاء من 

بيانات. 

والنص يعدُّ في التحليل الأخير له الأداة أو الغلاف أو المحتوى للقاعدة؛ فالنص قد يحتوي قاعدة قانونية أو أكثر، فالنص هو الوعاء أو الشيء، والقاعدة تُستخلص منه. 

ومن حيث نظرية التفسير، يجري تحديد النص على أنَّه المضمون الذي يُشكّل موضوع التفسير، ومن ثم فإنَّ النص يعدُّ الشيء الذي يمكن وضعه تحت الملاحظة، ومن الممكن تصوُّره.

ومن هنا، فإنَّ التفسير هو الذي يستطيع أن يستخلص المعنى من النص، ثم تأتي بعد ذلك فكرة القاعدة.

أمّا القاعدة؛ فهي مغزى النص، وعلى ذلك لا تُعدُّ القاعدة شيئاً بخلاف النص، ولكنَّها معنى. 

ويرى البعض أنَّ القاعدة هي الأداة لتقدير التركيب النفسي الخالص. 

وبناءً عليه؛ فإنَّ فَهم القاعدة لا يمكن أن يتحقق إلاّ من خلال عملية ذهنية بحتة. 

والقاعدة تُعتبر غير محسوسة، ومن ثم لا يمكن أن تختلط مع النص، ولذا يمكن القول إنَّ النص يسبق التفسير، أمّا عن القاعدة؛ فإنَّها تلي عملية التفسير. 

وبعبارة أخرى، إنَّ النص هو البيان أو المضمون الخاضع للتفسير، أمَّا بالنسبة للقاعدة؛ فهي البيان السابق تفسيره. 

ومن ثم؛ فإنَّ عملية التفسير تتيح استخلاص القواعد من النصوص التي تحتويها، فالتفسير وهو نشاط يهدف إلى إسناد معنى للنص يتم باعتباره توليد للأفكار، فالتفسير إذن يلعب دوره في توليد القاعدة. 

وبناءً عليه؛ فالقاعدة هي إذن النص المفسَّر، وإذا لم يكن هناك سبيل لمعرفة القاعدة إلاّ من خلال التفسير، فهي إذن نتيجة للتفسير، أو يمكن القول إنَّها ثمرة للتفسير، وعلى ذلك؛ فعندما نطبّق القانون، فإنَّنا لا نطبّق النصوص، ولكن نطبّق القواعد.

 وقد ثار جدل فقهي واسع في إيطاليا وفرنسا بشأن تحديد موضوع القرارات الدستورية، وما إذا كان على المحكمة الدستورية أن تقضي في نصوص التشريع أم في القواعد التشريعية، وانقسم الفقه في ذلك إلى اتجاهين: أحدهما يرى أنَّ النص موضوع القرارات الدستورية، في حين يرى الآخر أنَّ القاعدة هي موضوع القرارات الدستورية، ولم تسعف النصوص الخاصة برقابة دستورية القوانين في فرنسا لتقديم جواب شافٍ يمكن أن يصبَّ في مصلحة أيٍ من الاتجاهين. 

ونشايع من ذهب إلى القول إنَّ حسم هذا الموضوع لابد أن يأخذ حلاً وسطاً؛ فحينما يلعب النص دوره في تحديد القاعدة التشريعية بشكل واسع، وحينما يكون هناك تطابق بين النص والقاعدة بلا أيّ غموض، فإنَّ القاضي الدستوري لا ينظر وقتئذٍ إلاّ في النصوص، وبالمقابل، حينما يكون النص واسعاً وحينما ينقطع التطابق بين النص والقاعدة، فإنَّ القاضي الدستوري عندئذٍ ينظر إمّا في النص أو في القاعدة. 

فهذا الحل، إلى جانب كونه يتسم بالعقلانية، فإنَّه يتناغم مع إشكالية التمييز بين النص والقاعدة، وإذا ما تمَّ تطبيق هذا الحل فإنَّ ذلك يكون في حالة إذا لم يُعنَ المشرّع بصورة حقيقية بتحديد القاعدة، والقبض على الفرضيات القاعدية للنص، وفي ذلك يقول العميد (فيدل) “ إنَّ المشرّع الذي يتمتع بالقدر الكافي من الدقة لا يدع للمجلس الدستوري أيّ سبب لكي يوجّه التفسير الخاص بالقانون”.

ومما يرتبط بموضوع الأثر القانوني المترتّب على الحكم الصادر بعدم الأهلية الدستورية لنص تشريعي، أنَّ النص التشريعي قد ينص على قاعدة تشريعة واحدة، وفي أحيان أخرى قد يحتوي على أكثر من قاعدة تشريعية. 

وعلى العكس من ذلك، قد تتوزع القاعدة التشريعية بين أكثر من نص، فلا يستوعبها كلَّها نصٌّ واحد، وإنَّ النص التشريعي الذي يتضمن قاعدة تشريعية واحدة قد يكون غيرَ دستوري، وفي هذا الفرض لا توجد مشكلة في تقرير إلغاء هذا النص لعدم أهليته الدستورية. 

ولكن قد تَدُقُّ المسألة، وذلك إذا انطوى النص التشريعي على أكثر من قاعدة ينص عليها أو يتضمنها، وقد يُطعن فيه كله أمام القضاء الدستوري، الذي قد لا يقضي، في هذه الحالة، بعدم الأهلية الدستورية للنص برمّته، وإنّما قد يقصر قضاءه على بعض ما يحتويه من قواعد دون البعض الآخر.

كما أن المسألة تَدُقُّ إذا كانت القاعدة التشريعية موزعة مثلاً بين نصين تشريعيين في قانون واحد، أو في قانونيين، وقد يُطعن أمام القضاء الدستوري بنص واحد، وليس بكلا النصين اللذين تتوزع بينهما القاعدة. 

وهنا على القضاء الدستوري أن يبسط رقابته على دستورية هذين النصين كليهما، فلا يقصرها على النص المطعون فيه وحدَه.

• الفرض البسيط:

وهنا يحتوي النص التشريعي على قاعدة تشريعية واحدة، لم ينصّ إلا عليها، ولم يتضمن سواها، فإذا اعترى النص عيبُ مخالفة الدستور، تقرر المحكمة الدستورية عدم دستوريته برمته، في كل ما نصّ عليه.

• فرض النص الذي يحتوي على أكثر من قاعدة: 

قد يحتوي النص التشريعي على أكثر من قاعدة ينصّ عليها، ويدل عليها منطوقه ذاته بما يتضمنه من عبارات وألفاظ. 

كما أنَّ النص قد يحتوي على أكثر من قاعدة تشريعية، ولو أنَّه لم ينصّ صراحةً إلاّ على واحدة فقط، وذلك إذا كان يتضمن قاعدة أخرى، لم يُنَصّ عليها صراحةً، ولكنَّها تُستفاد ضمناً من فحواه، أي من روحه، لا من صريح منطوقه المتبلور في ألفاظ عباراته؛ إذ قد يقوم النص التشريعي بالنص ّعلى قاعدة أو أكثر، وإلى جانب ذلك، فإنَّه يتضمن وراء السطور على وجه غير مباشر، قاعدةً تشريعة، أي قاعدةً اتجهت إليها إرادة المشرّع، ولو لم يكن المشرّع قد عبّر عن مقصده بشكل صريح في منطوق النص، بل تُستفاد نيَّته ضمناً بصورة غير مباشرة من وراء سطوره. 

بيد أنَّ هذه النية الضمنية للمشرّع جازمة لا مفرَّ من التسليم بما اتجهت إليه من قاعدة تشريعية، على الأقل، في تقدير المحكمة الدستورية. 

وقد تقضي المحكمة الدستورية بعدم الأهلية الدستورية بشأن ما تضمَّنه مثل هذا النص التشريعي من قاعدة، بيد أنَّه ليس حتماً مقضياً أن تحكم المحكمة الدستورية بعدم الأهلية الدستورية للنص التشريعي برمّته، وإنَّما قد يحدث أن تقضي المحكمة الدستورية بعدم دستورية قاعدة واحدة برمّتها من بين القواعد التي يشتمل عليها النص التشريعي دون القواعد الأخرى، وقد تحكم بعدم دستورية جزء من قاعدة من القواعد التي يشتمل عليها النص، ولا تحكم بعدم دستورية القاعدة الثالثة. 

وبذلك يكون النص التشريعي قد ناله من التعديل والحذف ما ناله، بفضل حكم واحد من الأحكام بعدم الأهلية الدستورية الذي تصدره المحكمة الدستورية