هل نجحت {البوتقة} العراقيَّة في صهر مكوناتها؟

آراء 2023/11/01
...

 ثامر عباس


حين نقرأ بعض الدراسات أو المقالات، التي تتعرض للمجتمع العراقي في مجالات التاريخ أو السياسة أو الاجتماع أو الثقافة أو الدين، تصادفنا في بعض الأحيان ألفاظًا (طنانة) وعبارات (رنانة)، تحاول إسباغ نوع من الصفات المثالية أو الخصائص الفريدة على طبيعة هذا المجتمع المحيّر، هي أبعد ما يكون عن الواقع وأقرب ما يكون إلى الخيال. 

ومن جملة تلك الصفات والخصائص التي يطيب للبعض كيلها جزافا عبارة (البوتقة)، لوصف التفاعلات والديناميات التي استطاع من خلالها المجتمع العراقي – في ظنهم واعتقادهم - (دمج) مكوناته و(توحيد) جماعاته، ومن ثم بلورت شخصية اجتماعية (معيارية)، متخطية للانتماءات الفرعية، وخلق هوية عراقية (حضارية) عابرة للولاءات التحتية. 

وعلى الرغم من مواقف العلامة الراحل (علي الوردي) حيال موضوعة (الصراع الثقافي) في المجتمع العراقي، وما تمخض عنها من انشطار في شخصية أفراده على مستوى التصورات والسلوكيات ما بين قيم (بدوية) وأخرى (حضارية)، إلاّ أنه كان يستبطن تصور أن الجماعات (الحضرية)، رغم كونها شكلت قطبا جاذبا للجماعات (البدوية – القبلية) على أساس ما كانت تتمتع به الأولى من فرص وإمكانيات، فهي قادرة – علاوة على ذلك – لأن تصبح (بوتقة) حضرية لصهر لتلك الجماعات والمكونات التي كانت تعيش حياة (التبدون) و(التريف)، بحيث استطاعت في نهاية المطاف على دمجهم في كيانها المديني. 

مشيرا الى أن العراق (أصبح من جرّاء ذلك كأنه بوتقة اجتماعية كبيرة تتفاعل فيها القبائل الجديدة القادمة من الصحراء مع سكان العراق، الذين هم بقايا الأقوام القديمة)، كما أن العاصمة بغداد صارت (بوتقة اجتماعية ضخمة تذوب فيها خلاصة ما أبدعه البشر من تراث حضاري حتى ذلك الحين). 

والحال أنه إذا ما رجعنا إلى كرونولوجيا التاريخ (القديم والحديث والمعاصر) واستعرضنا أحداثها المؤلمة وأمطنا اللثام عن وقائعها المريرة، سنواجه بحقيقة سوسيولوجية لا يمكن بأي حال دحضها أو تكذيبها مفادها بأن (العراق) كجغرافيا بشرية، وأن (بغداد) كمدينة حضرية، فشلت فشلا ذريعا في أن يتحولا من كيان تستوطنه الجماعات الهلامية والكيانات الفضفاضة، إلى (بوتقة) اجتماعية لصهر هذه المكونات المتنافرة والمتناثرة، سواء منها المحلية المتوطنة أو الأجنبية الوافدة، بحيث تستحيل – كما يفترض - إلى جماعة (وطنية) موحدة. 

كما أنهما عجزا عجزا تاما في دمج الثقافات والهويات، سواء منها الأصيلة أو الدخيلة، بحيث تستحيل – كما ينبغي - إلى شخصية (عراقيَّة) جامعة. 

ولعل هناك من يعترض على رأينا الرامي إلى إزالة بعض الانطباعات العاطفية المتكونة لدى عامة الناس، بخصوص حقيقة (البوتقة) الاجتماعية وعملية (الصهر) الثقافي التي حصلت في العراق، لا سيما في العقود الأولى من عمر (الدولة) العراقيَّة وعشية بناء كيانها (الوطني) إبان فترة الحكم الملكي العزيزة على قلوب البعض وما تلاها. 

وحيال مثل هذا الاعتراض المتوقع نقول: نعم فعلا شهد المجتمع العراقي محاولات عديدة تعرضت من خلالها مجموعات عرقية وطائفية وقبلية لعمليات (صهر) قسري و(دمج) إجباري كانت الغاية منها (احتواء) كيانها الجماعي و(امحاء) موروثها الثقافي، بحيث تفقد أصولها التاريخية وتنسى هويتها الحضارية. 

ولكن هل يا ترى ان فكرة (البوتقة) الاجتماعية تتأسس على مثل هذه السياسات (الاستيعابية) الظالمة والإجراءات (الاحتوائية) القاسية، التي عمدت لممارستها مختلف الأنظمة السياسية التي توالت على حكم العراق سواء في عهوده الماضية أو الحاضرة ؟!. 

الجواب : كلا بالطبع !.

إذ ان ما كانت تستهدفه ( البوتقة) المعنية لا يمكن موضعته في إطار سياسة تجميع وتوحيد شتات المكونات السوسيولوجية والانثروبولوجية العراقيَّة حول مجموعة من (الرموز) التاريخية والوطنية، التي يمكن اعتبارها قواسم مشتركة تنظوي تحت لوائها تلك المكونات، دون أن تفقد – جراء ذلك - خصائصها القومية أو الدينية أو الثقافية أو اللغوية. 

بقدر ما ساهمت في مراكمة الكراهيات ومفاقمة الانقسامات على أسس من الأصوليات المجيشة والعصبيات المعبأة، بحيث دللت التجارب السابقة وأثبتت الممارسات اللاحقة ان سياسات (الصهر) وإجراءات (الدمج) التي اعتمدتها الأنظمة الدكتاتورية والشمولية، أفضت إلى خلق مجتمع (تتآكل) مكوناته ذاتيا تحت وطأة مشاعر التنابذ والتباغض المتبادلة، بدلا من أن تكون عاملا على اجتثاث الحساسيات التاريخية والاحتقانات الدينية والاستقطابات الأيديولوجية والتخندقات السياسية.