النزوع للشهرة والنكوص الاجتماعي

آراء 2023/11/02
...

 علي المرهج

لا أجمل من الشهرة عند من يصبون إليها أو عاشوا في ظلها، لتميزهم في نتاج معرفي أو فني أو شعري أو في حضور سياسي لبعض القادة في مجتمعنا.  شهرة هذا النتاج على المتلقي الذي لا يتذوق خطابا سياسيا أو رجل دين مشهورًا، أو لوحة فنية لفنان تشكيلي مشهور أو موسيقي، عبّرت شهرتها الآفاق أوعزف قطعة موسيقية لموسيقي صال وجال، والحال تصح على شاعر أو كاتب أو خطيب مفوه أو منشد صوته جميل، وهؤلاء كل بحسب تخصصه يصدر نتاجه، وقد لا يتذوقه متلق مختص، لأنه يعرف هنات هذا النتاج الذي وصف بأنه إبداعي.

ربما تجد منتج النص مكتفيًّا بمتابعيه أو مريديه يذودون عنه، وقد يكون هو مقتنعًا في قرارة نفسه بالنقودات، التي وجّهت إليه من مختصين مثله. 

ذات مرة ذكر لي أستاذي الكبير مدني صالح أنه زار متحف اللوفر في باريس، ووقف عند لوحة «الموناليزا»، فقال إنني وجدتها «كرعة ومو حلوة وتلعب النفس»، ولكنني لم أصرح بقولي هذا في الفضاء العام، لأن هذه اللوحة أصبحت سلطة ثقافية، قد ينتقد المختصون قبل المعجبين. 

فما بالك إن قلت عن فنان مشهور أو رجل دين أشهر منه أو عسكري برتبة متقدمة أو رجل سياسة له أتباعه، بأن ما يفعله في مسألة ما أو ما أنتجه أو ما صرّح به لا أظنه يستحق الإعجاب والتهليل والتطبيل؟! وقد يكون عندك عشرات الأدّلة العقلية والمروية على أنه لا يستحق من جهة وصفه بأنه يستحق الشهرة

ما تظن أنه مُلاقيك من معجبيه أو أتباعه وقل إنهم مريدوه!. 

قرأت لبعض من وصفوا بأنهم فلاسفة، وهم من «الخط الثاني أو الثالث» وصدّرهم الغرب لنا على أنهم من كبار الفلاسفة، ولكنني وصفتهم بأنهم «فلاسفة « ولم يقبل بوصفي هذا بعض المعجبين بفلسفتهم، ولكن لا دليل عندهم في الدفقاع عن أهميتها سوى مقبولية الموضوعات، التي تناولوها عند كثير ممن قرأ لهم، وهذه وهذا شكل من أشكال التذوق لا وجهة نظر مبنية على أدلة، لذلك أصر على أن في تاريخ الفلسفة تصدير لفلاسفة هم لا يستحقون هذا الوصف بالقياس، لما قدمه سقراط وإفلاطون وأرسطو، ومن هم قريبون منهم في تبني الفلسفة، بوصفها منهجا عقلانيا وأسلوب حياة يكشف عن عقم متبنيات «المشهور» و»السائد» ليكون فلسفةً. 

من ميزات الفلسفة الرفض، بمعنى أن تقام فلسفة ما على نقد فلسفة سابقة أو ربما رفضها، وحتى إعادة إنتاجها، ولكن بمقولات تستمد حضورها من مناهج عصرها، لا أن تكون مجرد ترديد لمقولات فلاسفة سابقين. 

الشهرة مقياس أول للتلقي، ولكنه ليس المقياس الأخير، فقد تجد في نص لشاعر أو كاتب أو فنان إبداع كبير، ولكنك تعترض على باقي نتاجه، لذلك الشهرة ليست مقياسًا نستدل به على أن كل ما يقدمونه يستحق 

الاشادة.

عندنا في الجامعات قد يكون هناك من يحمل لقب مدرس أو مدرس مساعد، ولكنه شاب مقبل على المعرفة قد يتجاوز في شغفه للمعرفة من يحمل لقب أستاذ «بروفيسير»، نال لقبه بفضل إشرافه على مجموعة طلبة أذكياء دوّن اسمه معهم في بحث في الماجستسر أو في الدكتوراه أشرف عليه، أو في بحوث كتبوها في السنة التحضيرية فقدمه للترقية ونالها، ولكنه لا يقرأ ولا يُتابع ما آل إليه مجال تخصصه. 

في الحياة هناك من يتبجح بأنه يسبقك بالعمر ويتباهى بذلك، وتجد الآخرين يحترمونه لأنه أكبر منهم بالعمر، وهو جاهل قد يكون من يُخاطبهم أفضل منه في تدبير شؤونهم وإدارة حياتهم وحرصهم 

العلمي. 

يقتطع بعضٌ من أبناء هذا الجيل لقطات جميلة من زمننا الماضي، ويصورون حياتنا بأنها كانت وردية، على قاعدة «ويل للمصلين»، ولم يستكملوا الآية «الذين كانوا عن صلاتهم ساهون»، فيقتطع كل ما هو جميل في حياتنا السابقة، ويتغافل عن حجم القمع والإرهاب الذي تُمارسه سلطة الاستبداد في النظام السابق!، بل ويتغافل عن عنف السلطة واستهتارها في الدخول بحروب خسرنا فيها أكثر من مليون عراقي، لا لشيء سوى أن نظام الدكتاتور يروم صناعة صورة بطل الأمة العربية ويستنسخ نسخة مشوهة من «جمال عبدالناصر» في نزوعه القومي والوحدي، رغم أنف العراقيين الذين كانوا وقودًا لحروبه الخاسرة، التي كان يسعى ليكون بطل الأمة العربية و»حارس البوابة الشرقية»!، فكانت هذه النزعة للشهرة أحد أسباب نكوصنا الاجتماعي وتخلفنا، الذي جعل شخصًا جاهلًا يعيش في وهم الشهرة لديه الاستعداد للتضحية بآخر إنسان في بلده ليكون هو «القائد الظافر»، وبعبارة صدام حسين «أسلم البلد تراب»!. 

خسرنا الكثير بسبب نزوع القائد للشهرة، وقد يكون مثاله في استبداد السلطة واضحا في مجتمعنا، ولكنه تمثل في حياتنا عند كثير من كتابنا ومبدعينا، بل عند المعلم والشرطي وشيخ العشيرة ورجال دين وفنانين وعسكريين وغيرهم.