حسب الله يحيى
يقال إن هارون العباسي سأل البهلول: ما هو حكم السارق؟ أجاب البهلول: اذا كان قد سرق عن مهنة، فتقطع يده، وإن كانت السرقة عن حاجة؛ عندئذ تقطع يد الحاكم.
وأمام ما قيل لا بد ان نتوقف عن الحالتين، وليست الحالة الواحدة. فالسرقة عن مهنة وحرفية؛ لا ينبغي أن تمر بقطع اليد، ذلك ان هذه العملية ستشكل عاهة، يدين فيها المجتمع السارق طوال عمره ولا يعفو عنه، مما يجعل قطع اليد اهون بكثير من هذه الإدانة، التي تلازم الانسان وتجعل منه ظاهرة مدانة يتحملها السارق لوحده.
بينما نجد أن عملية السرقة هذه لا بد ان يكون لها جذورها التي تعمل على تعليم السارق طريقة عملية السرقة، مما يؤدي إلى احترافها ومن ثم تصبح جزءًا أساسيا من مكونات السارق وسلوكه وعقله.
إن مهمتنا في استئصال هذه الجذور بوصفها (المعلم أو المرشد السلبي الأول)، التي جعلت من صاحبها يتخذها مهنة تدر عليه المال، واذا ما انتهى امرها؛ عندئذ سيجيء شخص آخر ليحترف المهنة ويتواصل معها جيلا بعد آخر.
أما من تبين أن سرقته تقوم على الحاجة المعيشية الملحة؛ فإن الامر يتطلب من الجهات المعنية أن توفر له عملا يمكنه من العيش بشكل محترم خال من الذل والمهانة.. إلى جانب معاقبة من كان يحكم البلاد من دون أن يولي فقراء الناس الأهمية التي يستحقونها.. وعليه أن يعاقب أشد العقاب. ولكن من هو الطرف الذي يتولى معاقبته، وهو الذي عمل على نشر الجوع والفقر والمرض والجهل بين الناس؟ إن الناس هنا حفاة لا يملكون ما يحفظ سلامة ومصداقية إقدامهم على السرقة، وهم فضلا عن ذلك يعانون من فراغ في بطونهم.
ان السرقة كما يقول دستويفسكي (السلطة.. لذيذة وممتعة حتى لو كانت على ذبابة)، الذبابة هنا ضحية لكنها تعد متعة لكل متسلط يرى كل الأشياء ممتعة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، يعتد بها أو هامشية.. فالأمور ليست في مدار تفكير من يتولى السلطة. من هنا نرى أن للسرقة أسبابها ومفاتيحها، مثلما للسلطة وجاهتها وألقها في النفوس.
فهناك من يسرق أسوة بسواه ممن يسرق من دون حساب ولا عقاب، بل هناك من يوسّع قاعدة هذه السرقة، ويعطي مفاتيح العمل فيها لأكثر من شخص، حتى تتساوى الرؤوس وحتى يشيع الخبر، ويصبح ظاهرة مألوفة لا يحاسب عليها القانون.
(القانون) هنا يحاسب على أصغر السرقات بوصفها الحالة التي يمكن أن يقاضيها ويدينها، من دون أن يقف أحد إلى جانب ما تمتلكه من عدالة.
لقد صار لزاما على من امتلك السلطة قطف ما يريد من حدائق الوطن وتحويلها إلى كائنات ذليلة لا قدرة لها على محاسبة ما اقترفته يد السراق.
ذلك أن الحاكم أو المسؤول الذي يتولى مهمة الأفعال عليه لا تعنيه مثل هذه الحالات! ولأننا بتنا نعيش هذه الظاهرة المهيمنة على حياتنا الاجتماعية؛ فقد وجدنا أنفسنا ندفع لسارق ثمنا نحن مكرهون على دفعه، وإلا أصبحت كل معاملاتنا ومراجعاتنا للدوائر من دون تروٍ أو موقف عقلاني سليم، ذلك أن كل مراجعاتنا، ستتحول بقدرة قادر إلى معاملة خاطئة ومغلوطة، اذا لم يتجاوز الموظف المسؤول على اتهام أصحاب هذه المعاملة بتهمة التضليل أو التزوير.. وعندئذ تكون الاستقامة التي تربينا عليها مجرد تربية فجة لا طائلة من استخدامها في هذه الظروف الصعبة على المستويات كافة.
نعم السرقة كممارسة مرفوضة ومدانة شكلًا و إعلامًا من قبل المسؤولين؛ إلا أنها باتت ظاهرة سائدة، نجدها في أبسط المعاملات في الدوائر الرسمية وأبسط الأمور الحياتية، كما أصبحت عرفا متداولا بين الناس !
ولان الأمور باتت تجري بانسيابية مطلقة من دون حسيب ولا رقيب؛ أصبح أمر السرقة والسراق مرهونا بالعلاقات والمنافع المتبادلة بعيدا عن قيم المجتمع، وقريبا من المألوف الذي لا يختلف بشأنه عراقيان، ومن دون أن نجد يدا ضاربة تحاكم أولئك الذين عملوا على تجذير السرقة وأولئك، الذين أصبحت السرقة جزءا أساسيا من أحوالهم وترفهم وسعاداتهم.