تعالقات اليومي والمحكي مع المزاج الشعري
جاسم خلف الياس
من المسلمات التي لا تقبل الشكَّ في النظريَّة النقدية الحديثة هي أنَّ الفنَّ الشعري في عصرنا الحالي قد انفتح بمقصدية عالية على التفاصيل اليومية، والمألوفة في الوجود، بلغة تستشرف الأحلام، وتغري الأحاسيس بالتدفق، والدلالات بالمراوغة، في شحنات جمالية وإيحائية، شكّلت الذات فيها مكوناً أساسياً. ولا سيما في قصيدة النثر التي تأهّلت لاحتواء هذه التكوينات أكثر من غيرها في الاشتغالات الشعرية الأخر، بوصفها نوعاً حداثياً له حساسيته الخاصة، وحضوره الفاعل، واشتراطاته التي تعتمد الاختزال والتكثيف للجزئيات الصغيرة بكل ما تحمل هذه الجزئيات من مفارقات، تسعى إلى خلق ما يثير دهشة القارئ، ويربكه أحياناً وهي تقوده إلى اليومي والمألوف والمنفتح على التقويض والبناء في الآن ذاته، تخلصاً من التكرار والاجترار، إلى الحد الذي لم تكن الكلمة في هذه القصيدة “مجرد مادة ظاهرية معتمة، بل أنها تشرع في الإضاءة بواسطة الفكرة” حسب سوزان برنار (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا،: 15). وإذا كان أي تغيير في الأشكال لا بد أن يكون مصحوباً بتغيير في الرؤى، فبإمكاننا أن نوظّف هذه المعادلة الطردية ونقول: إنَّ قصيدة النثر تحتمل التقويض، الخلق، الاكتشاف، الانفتاح، الاختراق، الانتهاك، التوليد، الابتكار..... وغيرها من المتكئات التي اتكأت عليها، بوعي مغاير، وصيرورة جوهرية، واتساع دوال (الرموز، العلامات، البياضات، الفراغات، الإشارات) للحفاظ على وهج الروح الشعري من الخبوّ والهمود. وعلى هذا الأساس لم تكن قصيدة النثر تحولاً شكلياً نتيجة لتسارع العصر ووفرة المعرفيات فحسب، وإنما للنضج الفكري عند الشاعر المثقف، الواعي، المدرك إدراكاً جيداً لضرورة تجاوز الأساليب اللغوية القارة، والانفتاح على الأساليب المبتكرة التي تقع خارج دائرة التأطير المرجعي للاشتغالات الشعرية السائدة. وعلى هذا الأساس فإنَّ انتماء هذه القصيدة إلى العابر واليوميّ، دعاها إلى تأثيث ممكناتها بالصور والعلامات والمفارقات، إذ تستمدّ شذراتها الفعّالة من بلاغة الاستعارة، والانزياح والترميز، لتقودنا باتجاه منحرف، يجعل الغياب هو الأصل والحضور هو الفرع.
بهذا المدخل المتواضع نسعى إلى مقاربة المزاج الشعري في التقاط التفاصيل الصغيرة بشعرية عالية، إذ يعمل الشاعر على توظيف المتداول (اليومي والمحكي) بشفافية عالية، مركّزين على أهم شواغلها، وهو جذب القارئ باتجاه بلاغة اليومي والمحكي بعد أن تجرّهما من الواقع بقوة تصوير الأشياء كما يراها الشاعر، فيخطف في لمح البرق أشكالها المتغيرة ويجعلنا نحس هذه الأشياء كما يحسها هو حسب تعبير (كروتشه)، أي بتعبير آخر يعمل الشاعر على قراءة اليومي والمحكي بلغة شعرية، قادرة على التحوّل من الذهني إلى الواقعي، وهو يصف حياته اليومية، فيندفع إلى تصوير التجارب الإنسانية حتى وإن غاص في الذاتية، وعبّر عمّا يشتهي مزاجه الشعري. والشاعر الذي لديه القدرة على تفعيل هذه الأشياء في منطقة الإغواء واحتكارها لسحر البوح، سوف يستحيل التعامل معها بأنها مجرد أثر، وإنما سيتعامل معها بوصفها حضوراً إنسانياً، وبإمكانه جرّ العابر واليومي إلى دائرة المكوث والأزلي، وهذا الفعل الكتابي يحتاج إلى قدرة على الخلق، وانطلاق اللحظة الشعرية من المخيّلة المؤلّفة إلى المخيّلة القارئة تبعاً لآليات الاتصال والانفصال، فاللغة الشعرية ببساطة حين تمارس وجودها داخل حدود القصيدة يتحقق الاتصال الدلالي، وحين تمارس هروبها خارج القصيدة يتحقق الانفصال الدلالي، وهذه العلاقة السحرية مرهونة بالتعرّي والإخفاء، الضجيج والهمود، والتحوّل من يقينيات المعنى إلى هواجس الدلالة واحتمالاتها المفتوحة على التأويل. وهنا يتحكّم المزاج في هذا التأويل، فكل ما يتدخل في اختيار المقولات التي تتناسب مع رؤية القارئ ليس مسألة عرضية، بقدر ما هو مستكين للمزاج، والميول التي تتحكم فيه. وهذا ما سنتناوله في تعالقات المزاج النقدي مع الأهواء في قابل المقاربات.
حين يكتب الشاعر ذاته فإنه يكتب قلقه الشخصي، إذ يحافظ على هذه الذات عبر مزاجه الشعري الذي يستدعي اليومي ويحرّكه باتجاه الانحياز إلى هويته في الوجود، ويحرّض على اشتغاله المتوهج في سياقه الشخصي، وتعبيره المزاجي، واستعداداته الذاتية التي تشكل الفضاء النفسي للشاعر، وهنا تؤدي الميول دوراً فاعلاً في احتواء كل ما ينتمي إلى هذا الفضاء، كما تؤدي إلى تشخيص الظواهر المميزة لطبيعة الشاعر الانفعالية، والتي تتضمن قوة الاستثارة لديه، فضلاً عن قوة الاستجابة وسرعتها، وعلى هذا الأساس يعد الشاعر من الذين يصرّون على استدامة فعالياتهم، والاستعداد للوصول إلى حدّها الأقصى، فيتوصلون بذلك حسب رأي كارل يونغ إلى تحقيق الذات، وتحقيق الرغبة عبر إشباع ميولهم التي أحبطها المجتمع عبر التخيّل الذي كثيراً ما يبعد الـ(أنا) الحقيقية عن الـ(أنا) الوهمية القليلة الصلة بالشاعر. وهذا يشير إلى أنَّ قوّة المزاج الشعري تتغلب في كثير من الأوقات على الداخل الحقيقي؛ لأنَّ المخيّلة الشعرية وحدها القادرة على الانفلات من السيطرة على الطبع الانفعالي، وهنا يتحقق التمرد، والنزق، والتقلب، والانقياد نحو الاسترجاع الذاكراتي سواء أكان هذا الاسترجاع قريباً أو بعيداً في النص الشعري.
إنَّ المزاج في الاشتغال الشعري يتقيّد في أغلب الأوقات بالتقلب النفسي لدى الشاعر؛ لأنَّ تقلّب العواطف سواء أكان تقلباً نوعياً في التأرجح بين القوة بوصفها توتراً عالياً، والضعف بوصفه هموداً تاماً عقب تفريغ الشحنة الانفعالية، أو تقلباً كمياً يعتمد قياسه على الانفعالات المتعاقبة، فهو الذي يخلق في النص الشعري ما يمكننا تسميته بـ(صراع العواطف) إذ يؤثث هذا الصراع النص بانفعالات مختلفة، ويؤدي إلى الانحياز نحو الذاتية، وهنا ينهض النص على توظيف ضمير المتكلم (أنا) حتى وإن تقمّص الشاعر حالة انفعالية بعيدة عن ذاته، إذ نجد طغيان هذا الضمير وتسلطه، وكأنَّ هذه الحالة هي حالة شخصية راهنة، إذ تشدنا حدّة الانفعال إلى الاقتناع بالمزاج الشعري الذي يعبر عن موقف الشاعر تجاه الأشياء والحياة. وهنا نتساءل: كيف نشخّص الصدق والكذب في المزاج الشعري؟ وما علاقتهما بكل من الوهم والواقع؟
وفي معرض الإجابة عن هذين السؤالين لا بد من التوكيد على أنه لا يمكننا الاعتقاد بالصدق عند مطابقة النص للواقع بكل ما فيه من يومي ومحكي وشعبي ومعيش.....، كما لا يمكننا الاعتقاد بالكذب عند مخالفته لذلك الواقع، فكلما كانت الصور الشعرية مبتكرة ومتعددة الإيحاءات كانت أكثر تأثيراً في المتلقي، والمعيار الذي لا يتزعزع في الفن الشعري مهما اختلفت أنواعه، وتغيرت أساليبه، واشتدت تعبيراته، وقويت بلاغته، هو تعاضد المعيارين الجمالي والمعرفي، كما أنَّ معياري الصدق والكذب الحقيقيين ليس لهما وجود في المزاج الشعري، ذي الحشد اللغوي الباهض، والتوتر النفسي الفادح، والجرأة الكبيرة في قول الداخل. ويتحكم في هذين المعيارين تقاطبات السعادات والتعاسات بكل ما يختزنان من تفرعات وتفاصيل وجزئيات لها علاقة بالانفعالات، فكلما أخفق الشاعر في توظيف انفعالاته اقترب من محصّلات التعاسة الشعرية إن صح التعبير، وكلما أفلح في إزاحة المعوقات التي تعيق تلك الانفعالات اقترب من محصّلات السعادة الشعرية.