نحو إعادة تأهيل السياسة الصناعيَّة في العراق

آراء 2023/11/08
...

  أ. د. فلاح خلف الربيعي

 منح الفكر الاقتصادي قطاع الصناعة دوراً قيادياً لكونه القطاع الديناميكي الوحيد القادر على دفع عجلة التنمية لقابليته على خلق التشابك القطاعي والترابطات الإنتاجيَّة مع جميع الأنشطة الأخرى، لذا فإنه يعمل كمحرك لعجلة النمو الاقتصادي، بينما يفتقر قطاع النفط لمثل هذه الإمكانيَّة نظراً لامتداداته الخارجيَّة، لذا أصبحت الدول تتسابق في تصميم السياسات الصناعيَّة الكفيلة بتطوير هذا القطاع وزيادة مساهمته في الناتج المحلي، لتعزيز قدراتها على استدامة النمو، واكتساب المزيد من القدرات على استيعاب الصدمات الخارجيَّة.

وقد أشارت العديد من الدراسات الى أنَّ التراجع في مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي وتشغيل الأيدي العاملة على الصعيد العالمي في السنوات الأخيرة، لا يعني تراجع أهميَّة ودور هذا القطاع في تحريك عجلة التنمية لعدة أسباب، من أهمها، أنَّه أكثر القطاعات استيعاباً للأيدي العاملة وبخاصة في الدول كثيفة السكان، كما أنَّه يشكل محور عمليَّة الإبداع والابتكار في الإنتاج نتيجة لعلاقته التشابكيَّة مع القطاعات الأخرى التي لا يمكن أنْ تحققَ نمواً مستداماً ما لم يحقق القطاع الصناعي نمواً مضطرداً، وأنَّه يسهمُ في تنويع مصادر الإنتاج والدخل والصادرات وتوفير موارد النقد الأجنبي وعلاج مشكلات عجز ميزان المدفوعات؛ وذلك من خلال تصنيع سلعٍ تعوض عن الاستيرادات أو تصنيع السلع للتصدير للخارج، علاوة على دوره في تطوير وتنمية الإنتاجيَّة ورفع مستوياتها لقدرته على تطبيق واستخدام التقنيَّة الحديثة. 

وبناءً على تلك المزايا يمكن تفسير افتقار النمو في العراق الى عنصر الاستدامة بغياب دور القطاع الصناعي واستمرار الاعتماد على النفط، وقد أسهمت توجهات السياسات الصناعيَّة في العراق بعد العام 2003 في تكريس هذا التوجه نتيجة الإهمال شبه التام لقطاع الصناعة بتخليها عن سياسات الدعم والتحفيز لهذا القطاع، فضلاً عن عدم اهتمامها بتشخيص جوانب القصور في أداء القطاع الصناعي العام، أو العمل على تعديل الانحرافات في الشركات العامة والخاصة، وبدلاً عن ذلك فضلت المضي في الخيار الليبرالي المتطرف المتمثل بالرهان على دور القطاع الخاص وآليات السوق، ما أدى الى إخفاق السياسة الصناعيَّة في أداء المهمات الملقاة على عاتقها بعد التغيير وفي مقدمتها التركيز على إزالة العقبات التي تعترضُ سبيلَ التنمية الصناعيَّة، وتحفيز التقدم الصناعي بالتشاور مع الشركات العامَّة والخاصة والمستثمرين المحليين والأجانب وتقديم الدعم لهم من أجل توجيه أنشطة الاستثمار والتجارة إلى المجالات الصناعيَّة، والعمل على إنشاء آليَّة للرصد والتقييم والمساءلة للوقوف على جوانب القصور والعمل على تعديل جميع الانحرافات، الى جانب ذلك فإنَّها أخفقت في بناء علاقات فعالة مع القطاع الخاص، فقرارات السياسة الصناعيَّة لم تكن تتماشى مع الظروف التي تواجه الشركات الصغيرة والكبيرة في القطاع الخاص. 

لذا فإنَّ السياسات الصناعيَّة في العراق بحاجة الى إعادة تأهيل، وهذا التأهيل يتطلبُ خضوعها الى المراجعة الشاملة والتقييم الدقيق والمساءلة بصورة دوريَّة ومستمرة ومنتظمة. 

بدلاً من الإصرار غير المنطقي على التوجه الليبرالي المتطرف، وهي بحاجة اليوم الى تبني مقاربة عقلانيَّة، وواقعيَّة لمعالجة مشكلات القطاع الصناعي، تقوم على الجمع بين دور السوق ودور الحكومة، فلا يمكن لآليات السوق وحدها أنْ تحقق الكفاءة الإنتاجيَّة والعدالة الاجتماعيَّة في ظل تفاقم المشكلات والاختلالات، وفي مقدمتها البطالة المرتفعة، وتدهور بيئة الأعمال وعدم الاستقرار السياسي وتعقيداته المعروفة. 

فلا يمكن إعادة إعمار البِنْية الصناعيَّة من دون دورٍ نشطٍ للدولة، فالإصلاح المنشود ينبغي أنْ تلعبَ فيه الدولة دوراً متوازناً ومتكاملاً مع السوق، خصوصا أنَّ القطاع الخاص المحلي في العراق وبسبب أوضاعه المعروفة يحتاج الى وقتٍ طويلٍ كما يحتاج الى الدولة ودعمها، علاوة على أنَّ تنويع الاقتصاد العراقي وتحريره من الاعتماد المفرط على النفط يتطلب التطبيق الفعال لسياسة صناعيَّة جديدة تستندُ على سياسة نفطيَّة ذات توجه تنموي يجتمعان تحت مظلة استراتيجيَّة ورؤية مستقبليَّة بعيدة المدى وواضحة 

الأهداف. 

في ظل تلك التوجهات سيكون إصلاح القطاع الصناعي العام إحدى المهام الأساسيَّة، وبخاصة مهمة إصلاح البِنْية الصناعيَّة والتخصص الصناعي، فمشكلات القطاع الصناعي العام لا يمكن أنْ تختزلَ بمشكلات ملكيَّة وإدارة المصانع، وإنما ينبغي البحث في عيوب التخصص والبِنْية الصناعيَّة، فضلاً عن عيوب الإدارة في القطاعين العام والخاص.