الشاعر الذي يدوّن احتجاجه

ثقافة 2019/05/12
...

 
علي حسن الفواز
 
يكتب الشاعر مدونته وكأنه يفترض تدوينا غامضا للعالم، الغموض الذي يجعله حرا، وبعيدا عن التفسير والتقويل والتأويل، فالوضوح لاينفع- احيانا- وسط الالم والاحتجاج، لذا تحتاج اللغة الى الغموض الذي يُفضي الى أشياء كثيرة، أولها شغف الحرية، وثانيها أن يفقد الانسان تواطؤه مع تلك اللغة، وثالثها أن لايقلق على مايتركه التدوين العلني من أثرٍ له علاقة خلافية مع النحو أو الصرف، أو حتى مع الضبط الشعري الذي يفرض سلطته ورقابته على الشعراء.
موفق محمد يكتب القصيدة بوصفها غموضه الشخصي، أو ألمه الشخصي، أو هي خطاب احتجاجه الشخصي، إذ يمارس كتابتها بوصفها طقسا ونشيدا وتعويضا، يترك لها كلّ جوارحه، وكلّ حواسه، ويضعها في سياق قاموسي من الصعب الوقوف عند قياسه او معياره، إنها القصيدة الشخصية جدا، قصيدة اللوعة والاعتراف، واحسب أنّ مثل هذه القصيدة لا تحتاج الى خرائط وقواميس قدر حاجتها الى البوح العلني، لذا يحرص موفق محمد، وبهوسٍ غريب على الانصات الى صوته، إذ يتموضع في ذلك الصوت، يتماهى عبره مع فعل التدوين، والذي يتحول الى اعترافٍ مفتوحٍ بحجم الحزن والخيبة التي يحملها، حدّ أنْ لاقياس للقصيدة التي يدعو للانصات لها، وهذا ما يجعل الجمهور مُنشدا الى شاعر يبكي، أو يشتم أو يسخر أو يحتج، فالقصيدة هنا هي لعبته الفادحة بالتعويض، والعلو، وفي مواجهة الضجيج الذي يفتعله الاخرون، ولأسباب لا علاقة لها بالشعر، فنحن نمارس الصخب بوصفه عادة، والانصات هو اكراه يضطر اليه الجمهور تلذذا، أو خوفا أو خجلا أو خوفا..
منذ الكوميديا العراقية، وعبدئيل، بالعربان ولا بالتربان، وغزل حلي، وهو يواصل هذه اللعبة الباذخة والفاجعة، يستحضر مرائر الذات العراقية واحزانها، يلامس تفاصيل المكان، عبر استدعاء شفراته، مثلما يستحضر الوجود عبر احالاته ودلالاته، فالمدينة الحلة هي الفضاء السحري، وحتى يومياتها وهوامشها وفقراؤها تبدو وكأنها غامرة في سياق تلك الشفرات والاحالات، فلا شيء خارج الحلة، ولا خارج نهرها، وخارج اساطيرها التي تجمع طقوس الفرح بالفاجعة، وتجمع مثيولوجيا الفقد بالحضور..
 
الكتابة بوصفها خطابا شخصيا
قصيدة موفق محمد تحتاج قارئا منحازا لها، قارئا يعايش الوجع فيها، ويتعالى مع دينامية الصوت الذي يستغرقها، الصوت الذي يعني الروح هنا، مثلما يعني تعرية القبح في الذات المحاربة، والذات المتسافلة، فالعالم كما يراه سافلا في حروبه واكاذيبه واستبداده، لذا من حق الشاعر أن يمارس سفالته المضادة عبر اللغة، أو أن يوظف قاموس الشتائم التي يعرف جذرها الشعبي والاستعمالي، لكي يضفي على القصيدة شذراته اللامعة، ولكي تكون هي نصه العلني
 بالاحتجاج... 
هذه القصيدة تعيدنا- ايضا- الى الهجاء، ليس بوصفه التاريخي كما عند الحُطيئة، بل بوصفه مواجهةً مع الموت الذي يفرضه الاخرون من السياسيين والفقهاء والتجار وانصاف الثوار والخونة وكل صانعي اللعنة. 
إنها قصيدته اللاذعة، تلك التي تحرّضنا، وتستفزنا، والتي لا تفترض وجود ناقد يراقبها، ولا نحوي يطارد جملها، بل تطرح نفسها كصوت مدوٍ، هو الصوت الانساني الذي يدفع الى مزيدٍ من الاحتجاج على الكراهية وعلى الضعف والخوف، والذي ورثناه من السياسة ومن الوصايا، وحتى من القصائد التي ظل السلاطين يؤجرونها لمواجهة خصومهم، وحتى من الأرث المسكون بالاشباح وبعربات الشياطين وخيول الخرافة.
فما زلنا في المربع الأول، 
واضعين الحصان خلف العربة، 
وعندما نتفق أو نختلف،
 لا فرق،
نقتل الحصان والسائق، 
ونحرق العربة..
 
قصيدة التفاصيل
التفاصيل عند موفق محمد هي اليوميات، والهوامش، والامكنة التي تضجّ بالحياة، وهي ايضا الحكايات والشفاهات، وأن توظيفها في القصيدة يأتي عبر شحنها بإلمحات حسية غامرة، وباستعارات تقوم على فعل المناورة، والمفارقة، وبما يجعل تلك التفاصيل وكأنها قصة الحياة المكتوبة بطريقة أخرى كما يسميها بول ريكور..
محلة الطاق، نهر الحلة، الأم، الولد الغائب، المقهى، الاصدقاء، الحكاية الشعبية، حوامل لتغريبة شعرية يكتبها الشاعر وكأنها يكتب من خلالها العالم الذي يراه مذبوحا عبر الحروب، تلك الحروب التي تذبح اولا الامكنة والذاكرة والحكايات، ولتترك بعدها الوجود بوارا، مقموعا، تائها، يبحث الناس فيه عن المعنى الغائب، عن التناص بوصفه كوميديا السوداء، عن  ثقوب تصلح للتسلل منها لمواجهة مايجري، أو لمعرفته كحدٍ ادني، فالمعرفة هنا قاسية وموحشة وباعثة على الكآبة..
كيف يكتب موفق محمد؟ سؤال لا حدود له، إذ تبدو الكتابة لعبة شخصية، فائقة الخطورة، لكنها قريبة من الجسد، تغسله، أو تكفّنه، أو تؤبنه أو تُطهّره من املاح الخديعة، تساعده على التنفس والعيش والاعتراف.. علاقة الجسد بالقصيدة تكشف لنا عن  نوع من السينوغرافيا، فحين يصوّت موفق محمد يتحول الى الجسد الى فضاء من الالوان التي يرتديها كنوع من الاحتجاج الصاخب، والى اصوات، تبوح، لكنها  تتبعثر على المسرح، وكأنها تستدعي كورسا ملحميا لكي يشاطرها هذا البوح العالي، أو التطهير الذي يفكّ عقدة الاثم، أو وجع الروح وهي تتنمر على الجسد دائما. قصيدة موفق محمد لا سوء نية لها، بقدر ما أنها تواجه “ الامبراطور بعريه” قصيدة لا اغطية لها، فادحة، متمردة، تفاصيلها مأخوذة من الحياة ذاتها، لكنه بالمقابل يكتب هذه القصيدة لكي يواجه الخوف، الخوف من الاخطاء الكبرى، الاخطاء الأقسى من الموت، وحين يعود الى الحلة، الماء، الأم، يطلق لنفسه صوتا خفيضا، هو الصوت الضد من صوته المسرحي، إذ يحلّ به، يناغيه، يسمع صوته الحميم، الصوت الذي يعيده الى الحياة التي حاول ان يكتبها بطريقة اخرى..   
أرجو ان لا يخاف أحد
ها أنا أحب الحلة
فما زلت جنيناً في رحمها
أسمع صوت أمي
في هسهسة الخبز
وفي نهرها الهادر بالحمام
هذا النهر الذي مد ذراعيه وسحبني
برفق من رحمها
وخبأني وأراني ما في قلبه من تيجان
وكنوز
ولفّني في سورته..