لا احد يستطيع ان يحظر الكلام في موضوع عن سواه من الناس. كل يريد الكلام لدوافع شتى، منها التصويب ومنها الارشاد والتوجيه ومنها التعالم ومنها ان ناساً خلقهم الله لا يحبون احداً. وما هو مؤسف، ان لاهم يعملون ولا هم يرضون بعمل غيرهم. كلام أولاء لا يرجى منه علم ينفع ورأي يفيد ولا لطف فترضاه وتمضي.
واقعنا جميعاً اننا نلم بعض الالمام في هذا الموضوع أو ذاك. وما أوتي احد كل العلم وكمال الإحاطة. واننا بين عمل وهواية نقول للناس ما عرفناه ولا ندعي إحاطة كاملة ولا إلماماً بكل التشعبات
والتفاصيل. فمنهم يريد هذه المعرفة المحدودة ويرضى بها ممتناً ومنهم يتساءل عن غياب التنويه بتلك المسألة أو هذه مما يتشعب له الموضوع أو مما ينقصه .. طبعاً لا موضوع مكتوب مكتمل تماماً، سواء كان مقالة أو كتاباً. مجموعة كتب، مجموعة باحثين، وعديد مؤلفات ربما تحيط بجوانب الموضوع. مع ذلك ثمة من يأتي من بعد ليكمل وهذا أمر معروف لدى المتواضعين من الكتاب والدارسين وعادةً عمل واحدهم يكمل عمل الآخر فصد أن يلموا بالموضوع، ولا يفوتهم جانب منه ونادراً لا تفلت من الصياد سمكة! أو لا يتعرض لمنزلَق.
موضوعات كثيرة نتجنب الكتابة فيها لأنها خارج ما نعرف ونعلم، ونرى انفسنا بعيدين عنها وغيرنا اقرب إليها. ليس في كتابة المقال أو البحث، لكن حتى في الترجمة فكثير ما عدلت انا شخصياً عن اكمال ترجمة لكتاب، إذ رأيت نفسي غير كفء للتمكن منه وموضوعه خارج دائرتي. نحن نعمل بطاقاتنا المتواضعة المحدودة ولكن نعمل. مثل هذا، كثيراً ما كلفتني دار النشر بترجمة كتاب رأيته خارج ما انا ملم به، بطبيعة لغته، بمصطلحاته، باسلوب كاتبه..، فاعتذرت. اترجم ما أرى نفسي قادراً على ترجمته، ولا اظنني وحيداً في هذا.هذا هو الشرف الادبي او
الامانة!
ملاحظة أخرى، اننا نظل نعدل ونصوب ونغير جمل كتاباتنا والتعابير ما دامت القصيدة أو المقالة أو الترجمة تحت ايدينا. ولا ننتهي منها حتى هي تنتهي منا وتتحرر من سلطتنا عليها.
أكثر من هذا إذا راجعنا ما كتبنا لأي قصد، لاعادة طبع أو لقراءة جديدة، نرانا نصحح أو نعدل وصعب، إلا ما ندر، ان تظل الكتابات كما هي من قبل.
أقول هذا لمن يعيب أو يجد مأخذاً في كتابة قديمة لغيره أو في فكرة قال بها قبل عقود. الإنسان ابن لحظته وذاكرته آنذاك وثقافته ومهارته غير ما هي اليوم لو اعاد الكتابة. العبارة التي اخترتها اليوم، اخترتها بفهمي اليوم وحيوية ذاكرتي اليوم وثرائي اللغوي اليوم، هذه كلها ليست هي تماماً في وقت آخر. فكيف بعد عقد من السنين أو عقود؟
مثل هذا آراء الباحثين واساتذة الأدب والفنون وحتى علماء الاجتماع.
لا يمكن اعتماد واحد، قديم، من كتبهم ما دامت مؤلفات جديدة أخرى له أعقبته. ربما غير المؤلف بعض آرائه، ربما اكد صواب سواها فابقاها في طبعة جديدة، أو في كتاب جديد.
وهذا هو سبب الضعف العلمي النسبي لتقادم المراجع فلو أمد الله بعمر ذلك المؤلف أو الباحث ربما قال مختلفاً، فذلك القديم ابن زمنه وقدرات مؤلفه واطلاعه وفهمه آنذاك.
من هذه الموضوعات، وسواها كثير، نشعر بان اصحاب الملاحظات أو الملحوظات البطرة، غير العلمية وغير لطيفة الكلام، إنما هم ناس لهم شبه بمن يتحدثون عن المعركة من بعد. فلا هم قاتلوا ولا هم اصغوا جيداً لحديث من خبر المعركة، أو خبر العمل أو مارس الكتابة أو الترجمة أو التأليف. يا سادتي، دعوا الناس تعمل، وأنا أقول لكم: لا مؤلف، لا فنان، لا صاحب ورشة ولا بائع ولا شار من غير مأخذ إن بحثت عن مأخذ ولكن الفضيلة في العمل واتعاب النفس في التغلب على العقبات في أي فن أو مهنة أو ممارسة.
الناس تعمل كل بطاقته وبحدود قدراته، له الشكر إن افادنا بشيء وله العذر إن سها أو اخطأ أو لم يرضنا كل الرضا، فهو يكتب لكل الناس ولم يقصر الخطاب علينا، لا تقرأ إن شئت أو إقرأ وانت هادئ تبتهج بما يفيدك وهذا كاف... دعوا الناس تعمل أو، في الأقل، ليكن الكلام لطيفا!