دراما الإنسان أم دراما الشخصيَّة!

ثقافة 2019/05/13
...

ياسين النصير
 
ما زال المسرح يطرق أبوابنا المعرفية، فهو الأب للفنون كلها، ولم يقف عند هذا التوصيف، بل بنى كل تصوراته على الإنسان، وليس على الشخصية، والفرق كبير بين تعميم الإنسان على كل الشخصيات، وتخصيص الشخصية على نمط من أفعال الإنسان. لذلك لم تبن التراجيديا توصيفاتها على الشخصيات، وأن سميت باسماء، وحددت بمواقف ومواقع وتواريخ، بل بنت بيتها الاصطلاحي والمفاهيمي على الإنسان، بوصفه الكائن الذي لا تحتويه شخصية ولا نمطا من أنماطه.
والمسألة عامة، تختص بها قواعد الفنون والآداب،فارسطو لم يبن كتابه فن الشعر على نماذج معينة من القصائد، وان استشهد بها، بل بنى قواعده وتنظيماتها على الشعر كله، الإنسان كل الفكر له، وهكذا اصبحت فنون الرواية ليست معنية برواية أو قصة معينة، بل بالرواية كلها، هذه الأرضية الفكرية والإجرائية منبعها الأساس الدراما، فالإنسان وجد بشكل درامي، سواء تلك الرؤية الدينية للخلق من التراب، أو تلك الرؤية العلمية التي تعيده إلى جذوره الحيوانية المتطورة، فالدراما بنية في تكوين الأشياء، كل الأشياء، وليست مختصة بنبتة أو كائن مفرد.
اسوق هذه المعلومة التي يعرفها الدارسون كلهم، كي ابرهن أننا نعيش في ظل دراما الشخصيات المفردة، سواء تلك التي تتحكم بنا، وبمقدراتنا العلمية والثقافية والمعيشية، أو تلك التي تصور نفسها أنها ممثلة للآلهة على الأرض، او هذه التي تمارس حضورها بالغاء الآخر لانه آخر ليس إلا. هذه الشخصيات المفردة تخلق اشكالًا من الدراما الصغيرة والضيقة الأفق، هي بالضرورة مستندة على تلك الأسس التي وضعت لكينونة الكائن، ولكنها تحرفها من أجل أن تكون هي بمثابة المفكر الوحيد للتصور عن الكيفية التي يجب ان نعمل بها، ونتيجة هذا الاضطراب في تفسير المفاهيم لشفاهية التسلط، انتبه المفكرون منذ جان جاك روسو، إلى اهمية القانون والتنظيم والعقد الإجتماعي، وامكانية ان يكون الفكر العلمي مستخلصا من التجارب الإنسانية لا من تجربة أفراد، هذه الرغبة العلمية المبكرة شكلت الاعترافات الأولى التي تؤسس العلاقة بين الذات والآخر عبر فهم ان المشتركات بين الكائنات الحية اكثر من المفترقات، وهذا ما يشكل عصب أي فعل درامي من شأنه تطوير المقولات وعدم ثبات أي منها إذا ما تغير زمنها او مكانها.
في كل منعطف اجتماعي، حياتي، فلسفي، مؤسساتي، تجد أفرادا لايفكرون إلا من خلال شخصياتهم، وليس من خلال نوعهم الإنساني، فالكائنات الفردية لايمكنها أن تكون حاضرة، إلا بالقوة، أو الكذب، هذا ما خلص إليه نيتشه في “ما هو الإنسان”، وتؤكد الفلسفات الشكية الثلاث الكبرى: الفرويدية والماركسية والنيشوية، على خطأ الدراما التي ترسمها الروح المطلق، باعتبارها دراما الشخصية الممثلة بالروح المتلبسة بها مؤسسات الدولة،وأصبح الفيلسوف مجرد موظف لهذه الدولة، بينما من يصنع الدرما الحقيقية هم الذين يعيشون على الأرض، ويكدون من أجل لقمة العيش، ويكسون أجسادهم العارية كما يقول ماركس اتقاء البرد. هذه هي الدراما التي تصنعها الحالات الإنسانية بألوانها ومستوياتها المعرفية، وليست تلك التي يصنعها أفراد ملتبسون،بين سلطة الاعتقاد، وحرفية الممارسة الشائنة.