تطور السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة وأثرها في العراق
السفير لقمان عبد الرحيم الفيلي
شهدت السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة تغيرات كبيرة منذ الحرب العالميَّة الثانية، الأمر الذي أدى إلى تشكيل نهج جديد في التعامل مع العلاقات الدوليَّة والقضايا العالميَّة، ومن الدول المتأثرة بهذه التغييرات هو العراق. يستكشف هذا المقال تطور السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة وانعكاساتها على العراق، ويستوضح العلاقات الدبلوماسيَّة والتعاون الاقتصادي ودور ألمانيا في إعادة إعمار العراق بعد الحروب. من التعافي بعد الحرب إلى الدبلوماسيَّة العالميَّة
في أعقاب الحرب العالميَّة الثانية، كانت ألمانيا دولة منقسمة، وتمحورت أولويات سياستها الخارجيَّة في المقام الأول حول إعادة بناء البلاد واستعادة سيادتها، ومع ذلك، مع إعادة توحيد ألمانيا في العام 1990، بدأت سياستها الخارجيَّة في التطور، إذ انتقلت ألمانيا من التركيز على التكامل الأوروبي والعلاقات عبر الأطلسي إلى كونها لاعباً أكثر نشاطاً على الساحة العالميَّة، وقد تميز هذا التحول بالالتزام بالدبلوماسيَّة المتعددة الأطراف، والجهود الإنسانيَّة، وحل النزاعات.
اتَّسمَ تطورُ السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة منذ الحرب العالميَّة الثانية بتحولاتٍ كبيرةٍ بسبب الأحداث التاريخيَّة، والتغيرات في القيادة، والديناميكيات الدوليَّة المتطورة، وتضمنت المراحل والتطورات الرئيسة في السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة خلال هذه المرحلة ما يلي:
* إعادة الإعمار بعد الحرب العالميَّة الثانية (1945 - 1949).
* تقسيم ألمانيا إلى شرق وغرب.
* الاندماج في المؤسسات الغربيَّة (من الخمسينيات إلى الستينيات).
التوجه نحو الشرق والانفراج (أواخر الستينيات والسبعينيات).
* إعادة التوحيد مع ألمانيا الشرقيَّة (1989 - 1990).
* عصر ما بعد الحرب الباردة.
* توسيع مشاركتها العالميَّة ومنها في بعثات حفظ السلام الدوليَّة والأمميَّة والمساهمة في عمليات الناتو.
ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين إلى الوقت الحاضر، تطورت سياسة ألمانيا الخارجيَّة بحيث تمكنت من التصدي للتحديات العالميَّة المعاصرة، ولقد اضطلعت ألمانيا بدورٍ أكثر حزماً في الشؤون الدوليَّة مع التزامها بالمشروع الأوروبي.
وكانت المصالح الاقتصاديَّة والتجاريَّة هي التي دفعت ألمانيا إلى التعامل مع دولٍ مثل الصين، ومع روسيا قبل حرب أوكرانيا في شباط 2022.
لعبت ألمانيا دوراً حيوياً في معالجة أزمة الديون في منطقة اليورو، وأزمة الهجرة، وكانت من أشدِّ المدافعين عن التخفيف من آثار التغيرات المناخيَّة، في حين شهدت علاقاتها عبر الأطلسي تحولات، حيث تبحر ألمانيا في علاقتها مع الولايات المتحدة في ظل إدارات مختلفة، بما في ذلك إدارة الرئيسين ترامب وبايدن.
ومن المهم أنْ نلاحظَ أنَّ السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة تتشكلُ من خلال التزامها بالقيم الديمقراطيَّة، والتكامل الأوروبي، والتعدديَّة، ونراها تواصلُ التكيفَ مع الظروف العالميَّة المتغيرة، وتستمرُ بكونها لاعباً رئيساً في الدبلوماسيَّة الدوليَّة.
العلاقات الدبلوماسيَّة
إنَّ التزام ألمانيا بالدبلوماسيَّة متعددة الأطراف ومشاركتها النشطة في المنظمات الدوليَّة يسلطُ الضوءَ على دورها بوصفها جهة عالميَّة فاعلة مسؤولة وملتزمة، وهي تسعى إلى التصدي للتحديات العالميَّة، من السلام والأمن إلى التنمية وتغير المناخ، من خلال الجهود التعاونيَّة ودعم مبادئ الأمم المتحدة والتعاون الدولي، وتعكسُ زعامة ألمانيا في مجال التعدديَّة تفانيها في تشكيل نظامٍ عالميٍ أكثر استقراراً وعدلاً واستدامة.
لم يكن الدور القيادي الذي تلعبه ألمانيا في الاتحاد الأوروبي خالياً من التحديات أو الانتقادات، لا سيما في ما يتعلق باختلال التوازن الاقتصادي داخل منطقة اليورو والقضايا المرتبطة بتقاسم الأعباء أثناء الأزمات.
ومع ذلك، يبقى التزامها بالمشروع الأوروبي قوياً، وهي تواصلُ العملَ مع شركائها في الاتحاد الأوروبي لمواجهة هذه التحديات.
وفي العموم، تعودُ الزعامة الألمانيَّة بالنفع على الاتحاد الأوروبي من خلال تعزيز التماسك والاستقرار والتقدم داخل الاتحاد، بما يسهمُ في نهاية المطاف في بناء أوروبا أكثر ازدهاراً ووحدة.
مرَّت العلاقات الدبلوماسيَّة الألمانيَّة مع العراق بمراحل مختلفة، ففي عهد نظام البعث، حافظت ألمانيا على علاقات دبلوماسيَّة شملت التعاون الاقتصادي، ومع ذلك، وخلال تسعينيات القرن المنصرم، وفي أعقاب غزو العراق للكويت وحرب الخليج الثانية التي تلت الغزو، فرضت ألمانيا، مثل العديد من الدول الغربيَّة، عقوباتٍ على العراق، كانت في المقام الأول رداً على امتلاكه لبرنامج أسلحة الدمار الشامل.
وبعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، أعادت ألمانيا علاقاتها الدبلوماسيَّة مع العراق، وكان دافعها لذلك هو التزامها بدعم التحول الديمقراطي في العراق، وتعزيز استقراره، وافتتحت سفارة في بغداد عام 2004، وحافظت منذ ذلك الحين على وجودٍ دبلوماسي، وتعاملت بنشاطٍ مع السلطات والشعب والمؤسسات العراقيَّة.
التعاون الاقتصادي والجهود الإنسانيَّة
تطورت العلاقات الاقتصاديَّة الألمانيَّة مع العراق بشكلٍ ملحوظٍ في السنوات الأخيرة، ومع خروج العراق من الصراع وعدم الاستقرار، أدركت ألمانيا أهميَّة التعاون الاقتصادي في دعم إعادة إعمار البلاد وتنميتها.
وقد نمت التجارة بين البلدين بشكلٍ مطرد، ويتمثل الجزءُ الأكبرُ منها بتصدير الآلات والمواد الكيميائيَّة والمركبات إلى العراق.
علاوة على ذلك، كانت ألمانيا مساهماً رئيساً في الجهود الإنسانيَّة في العراق، واستجابت لأزمة النزوح الإنسانيَّة الناجمة عن التوسع الإقليمي لعصابات داعش الإرهابيَّة في العام 2014، إذ قدمت مساعدات ماليَّة كبيرة خصصت للمساعدات الإنسانيَّة ودعم النازحين وتحقيق الاستقرار في المناطق المتضررة من النزاع، وتعكسُ هذه الجهود التزام ألمانيا بمعالجة الوضع الإنساني في العراق. إنَّ النهج الذي تتبعه ألمانيا في إعادة إعمار العراق في مرحلة ما بعد التحرير يتوافقُ مع التزامها بدعم الاستقرار والديمقراطيَّة وحماية حقوق الإنسان، وتدرك أنَّ معالجة الأسباب الجذريَّة للصراع، والمشاركة بالحكم، وتعزيز التنمية الاقتصاديَّة هي خطوات حاسمة في ضمان سلامٍ دائمٍ في المنطقة.
دروس للعراق
في حين أنَّ العراق وألمانيا لديهما سياقات تاريخيَّة وسياسيَّة وجيوسياسيَّة مختلفة إلى حدٍ كبير، إلا أنَّ هناك بعضاً من الدروس المستوحاة من السياسات الخارجيَّة الألمانيَّة التي يمكن أنْ يستفيدَ منها العراق في سعيه للتعامل مع علاقاته الخارجيَّة وتحدياتها.
وفي ما يلي بعضٌ من هذه الدروس:
1 - الدبلوماسيَّة متعددة الأطراف:
تركز ألمانيا بقوة على الدبلوماسيَّة المتعددة الأطراف والتعاون الدولي، ويمكن للعراق أنْ يستفيدَ من الانخراط بنشاطٍ في الجهود الدبلوماسيَّة على المستويين الإقليمي والعالمي، والسعي إلى إيجاد حلولٍ دبلوماسيَّة للصراعات، وتعزيز الحوار مع الدول المجاورة والشركاء الدوليين، وإنَّ العضويَّة في المنظمات الإقليميَّة والدوليَّة يمكن أنْ تساعدَ في تعزيز الحوار، وإيجاد حلولٍ دبلوماسيَّة للصراعات، ويمكن للعراق أيضاً أنْ يعطي الأولويَّة لبناء وتعزيز العلاقات الدبلوماسيَّة مع الدول المجاورة والمنظمات الإقليميَّة لمواجهة التحديات المشتركة.
2 - الالتزام بالاستقرار:
تعطي السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة الأولويَّة للاستقرار ومنع الصراعات.
ويمكن للعراق أنْ يتعلمَ أهميَّة الاستثمار في المبادرات التي تعزز السلام والمصالحة وحل الصراعات، وخاصة في المناطق المتضررة من الصراع وعدم الاستقرار.
3 - التعاون الاقتصادي:
طورت ألمانيا علاقات اقتصاديَّة قويَّة مع مختلف الدول، ويمكن للعراق أنْ يستكشفَ فرصَ التعاون الاقتصادي والتجاري مع دول الجوار والشركاء الدوليين لدعم جهود إعادة الإعمار والتنمية، وإنَّ تطوير العلاقات الاقتصاديَّة القويَّة يمكن أنْ يعززَ الاستقرار والازدهار.
4 - المساعدات الإنسانيَّة:
إنَّ التزام ألمانيا بتقديم المساعدات الإنسانيَّة ودعم اللاجئين أمرٌ جديرٌ بالملاحظة، ويمكن للعراق، بالنظر لتاريخه ومعاناته من الصراع والنزوح، أنْ يعززَ جهودهَ في مساعدة النازحين واللاجئين والعمل بشكلٍ وثيقٍ مع المجتمع الدولي بشأن المبادرات الإنسانيَّة، والعراق لديه واحدٌ من أنجح تجارب العالم في معالجة أزمة النزوح، ومن خلال التعاون مع المنظمات الدوليَّة والجهات المانحة، يستطيع العراق تحسين الظروف المعيشيَّة للسكان النازحين واللاجئين داخل حدوده.
5 - إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع:
يستطيع العراق استخلاص الدروس من تجربة إعادة الإعمار في ألمانيا بعد الحرب العالميَّة الثانية، ويمكن أنْ يكونَ التأكيد على تطوير البِنْية التحتيَّة والحكم الرشيد ومشاركة المجتمع المدني حاسماً في إعادة بناء البلاد وتعزيز الاستقرار على المدى الطويل، كما يحتاجُ إلى الاستثمار في التعليم والرعاية الصحيَّة لضمان مستقبلٍ مستقرٍ ومزدهر.
6 - القيم الديمقراطيَّة:
تؤكد السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة على القيم الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان، ويمكن للعراق أنْ يعطي لحماية حقوق الإنسان وضمانات تنفيذ النصوص الدستوريَّة الخاصة بها، وسيادة القانون، والمشاركة بالحكم، أولويَّة لتحقيق هدفي الاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي، بما يسهمُ التمسك بهذه القيم في تحقيق هذين الهدفين.
7 - التحالفات الدوليَّة والأمن الإقليمي:
تشاركُ ألمانيا بفعاليَّة في التحالفات الدوليَّة، مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وقد يكون من المفيد للعراق تعزيز قوته ثم تحالفاته في الشرق الأوسط والدخول في تحالفات دوليَّة والعمل بشكلٍ تعاوني مع الشركاء الإقليميين والدوليين بشأن قضايا الأمن والاستقرار، فضلاً عمَّا يمثله التعاون المتعدد الأطراف من أهميَّة في التصدي للتحديات المشتركة.
8 - الدبلوماسيَّة الثقافيَّة والتعليميَّة:
تعملُ ألمانيا على تعزيز برامج التبادل الثقافي والتعليمي وسيلة لبناء العلاقات بين الشعوب، ويمكن للعراق أنْ ينظرَ في مبادرات مماثلة لتعزيز التفاهم بين الثقافات وتعزيز علاقاته الدبلوماسيَّة مع العديد من الدول.
9 - حل الصراعات والمصالحة:
إنَّ التزام ألمانيا بالمصالحة بعد الحرب العالميَّة الثانية يقدم أنموذجاً ينبغي للعراق أنْ يأخذه بعين الاعتبار، إذ إنَّ تعزيز الحوار والمصالحة الداخليَّة (مع المجموعات العرقيَّة والدينيَّة المختلفة) والخارجيَّة (خصوصاً دول الجوار ممن كان معها تاريخ حروب) أمرٌ ضروريٌّ لتحقيق السلام والاستقرار الدائمين.
10 - منع الصراعات وحفظ السلام:
إنَّ المشاركة في جهود منع الصراعات والمساهمة في بعثات حفظ السلام يمكن أنْ تعززَ دور العراق في الأمن الإقليمي والعالمي وإنَّ المشاركة النشطة في مبادرات السلام يمكن أنْ تسهمَ في حلِّ الصراعات.
من المهم أنْ نلاحظ أنَّ السياسة الخارجيَّة لكل دولة تتأثر بعواملها التاريخيَّة والثقافيَّة والجيوسياسيَّة الفريدة، وعلى الرغم من أنَّ العراق قادرٌ على استخلاص دروسٍ قيّمة من السياسات الخارجيَّة التي تنتهجها ألمانيا، فإنَّه يتعينُ عليه أيضاً أنْ يكيفَ استراتيجياته بما يتناسب مع ظروفه وتحدياته المحددة، إذ إنَّ بناء علاقات مستقرة مع جيرانه، ومعالجة الصراعات الداخليَّة، وضمان رفاهيَّة مواطنيه، من الضروري وضعها كأولويات في أهداف السياسة الخارجيَّة للعراق واستقراره على المدى الطويل، وإنَّ اندماج العراق مع المجتمع الدولي والدول المجاورة والمنظمات الإقليميَّة بشكلٍ فعالٍ وإيجابي يسهمُ في تحقيق السلام والاستقرار والازدهار في المنطقة ككل.
خاتمة
من المهم أنْ نلاحظَ أنَّ قرارات السياسة الخارجيَّة غالباً ما تكون معقدة، ويتمُّ اتخاذها في سياق المتغيرات الدوليَّة وتطوراتها، وما قد يعدّه البعض خطأ قد يراه البعض الآخر بمثابة اختيارٍ سياسي محسوب، فالسياسة الخارجيَّة تخضع لمناقشات وتعديلات مستمرة، ويتمُّ استخلاصُ الدروس من القرارات السابقة لتشكيل استراتيجيات المستقبل.
لقد كان لتطور السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة على مرّ العقود تأثيرٌ في إقليمها الأوروبي وكذلك في بعض الدول التي أسهمت ألمانيا في استقرارها وتنميتها.
وإنَّ إعادة المشاركة الدبلوماسيَّة الألمانيَّة، والتعاون الاقتصادي، والمساعدات الإنسانيَّة،ودورها في إعادة الإعمار في مرحلة ما بعدالصراع على مستوى العالمي، أسهمت في تعافي الكثير من البلدان واستقرارها، ويعكسُ نهج ألمانيا في الالتزام بالدبلوماسيَّة متعددة الأطراف، والقيم الإنسانيَّة، والمسؤوليَّة العالميَّة.
وبينما يواصل العراق رحلته نحو السلام والازدهار الدائمين، فمن المرجح أنْ تستمرَ السياسة الخارجيَّة الألمانيَّة المتطورة في لعب دورٍ بناءٍ في تنمية دول أخرى والمشاركة في معالجة التحديات الإقليميَّة، وهنا ضروريٌ للعراق أنْ يستفدَ من هذه التجربة وأنْ يقوي شراكته مع ألمانيا والدول الأخرى التي تنتهج المنهج ذاته.