قصيدة التفعيلة العربيَّة وتعطيل مشروعها الحداثي

ثقافة 2023/11/09
...

  عبد علي حسن

ظهرت قصيدة التفعيلة في المشهد الثقافيّ العربيّ في النصف الأول من القرن الماضي على يد روادها العراقيين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري استجابةً لحاجة حضارية وفنيَّة ونفسيَّة استدعتها صيرورة المجتمع العربيّ بعد الحرب العالميّة الثانية/ 1945، وأثر تعاظم دور المدينة في الحياة الاجتماعيَّة وظهور المؤسسات الرسميّة والاجتماعيَّة التي حملت سمات المدن المعاصرة فقد وجد الشعراء في الشكل التقليدي القديم للشعر العربي الذي أنتجها مجتمع البداوة عائقا أمام هذه الصيرورة الجديدة للحياة الجديدة التي انعكست آثارها على تكوين شخصيّة الفرد والمجتمع، يضاف إلى ذلك توسع الأفق الفني والثقافي للشعراء عبر إطلاعهم على الحركات الشعرية للأمم الأخرى فضلا عن اطلاعهم على الحركات التجديدية في الشعر العربي التي سبقتهم كالموشح والبند، الأمر الذي دفعهم للبحث عن شكل يجدد ما استقرّ من شعر تقليدي ترسخ في المخيال الجمعي لقرون امتدت منذ عصر ماقبل الإسلام، على أن هاجسهم الأساس في هذا البحث هو كيفية الحفاظ علىٰ تواتر واستمرار الأبعاد الإيقاعية في كتابة هذه القصيدة الجديدة وتوفير مقبولية جمعية في تكوين شخصية الفرد العربي المعاصر، دون استعارة شكل ما من خارج البنية الاجتماعية والذهنية العربية.

وقد أسفر هذا البحث الوقوف على انتقال النظم والتأليف الشعري من وحدة البيت الكلاسيكي إلى وحدة التفعيلة كأساس معتمد في النظم مع إطلاق حرية الشاعر في استخدام وتوزيع التفعيلات على السطر الشعريّ وكذلك الحرية في توزيع القافية حسب الضرورة الشعريَّة مع المحافظة على الإيقاع الموسيقي الخارجي والداخلي الذي يحققه الوزن الشعري الذي اقتصر على البحور الصافية الستة من البحور التي ابتدعها الفراهيدي كما وضعت قواعدها الشاعرة نازك الملائكة وسار على وفقها الشعراء الرواد.  
ومما زاد في مقبولية هذا الشكل أو النوع الشعري الجديد وانتشاره هو تبني عدد من المجلات الأدبيّة العربيَّة مشاريع الشعراء ونشر قصائدهم ودواوينهم كمجلة الآداب البيروتية ومجلة (مواقف) ومجلة (شعر) وداري العودة والٱداب ، كذلك إقامة المهرجانات والجلسات الشعرية، وبذلك فقد دخل الشعر العربي مرحلة التحديث الجديدة بنوع تمكن من الإحاطة والتعبير عن قضايا المجتمع العربي وفق الحرية التي اتاحتها قصيدة التفعيلة التي أصرّت الشاعرة نازك الملائكة علىٰ تسميتها خطأً بـ (الشعر الحر) الذي اجترحه الشاعر الأمريكي (والت وايتمان) في أواخر القرن التاسع عشر وهو شعر يتحرر من الوزن والقافية ولاصلة له بقصيدة النثر التي ابتدعها الشاعر الفرنسي (شارل بودلير) أيضا في أواخر القرن التاسع عشر اِستفادة من الارهاصات التي بدأها بعض الشعراء الفرنسيين واهمهم الشاعر الفرنسي (برتران) في كتابه (غاسبار الليل) 1830 والشاعر (لوتريامون) في (اناشيد مالدرور) 1846، وكذلك تأثرهم بالأناشيد الهندية.
ولعل وراء ذلك الإصرار من قبل نازك الملائكة على تسمية مشروعها بالشعر الحر هو تأكيدها على الحرية التي اتاحتها هذه القصيدة في استخدام التفعيلات والقافية في التعبير عن تجاربهم الذاتية والذات الجمعية عبر تحقق الوحدة الموضوعية والعضوية للنص الشعري التي كانت تفتقر إليها قصيدة العمود على الرغم من تنبيه الراحل جبرا إبراهيم جبرا حول هذه التسمية الخاطئة التي تحيل إلى متبنيات وايتمان وحتى الشاعر الانكليزي (اليوت)، فقد دشنت قصيدة التفعيلة عبر منجز جيل روّادها مرحلةً جديدة في مسار صيرورة الشعر العربي، وأرست القواعد السليمة للشعراء العرب فيما بعد، خاصة جيل الستينيات الذي عاش احداثا اجتماعيّة وسياسيّة جديدة على المستوى المحلي والعربي والعالمي، ووجد شعراء هذا الجيل في قصيدة التفعيلة الشكل المناسب للتعبير عن استجابتهم لتلك الأحداث والوقائع الجديدة، ولم يتوقفوا عند ذلك فقط، بل تمكنوا من تحديث لهذا الشكل الجديد عبر تبنيهم محاولة إدخال البحور غير الصافية إضافة البحور التي اقترحها جيل الرواد، كما تمكنوا من تخليق آليات وتقنيات جديدة في منجزهم الشعري انطلق منها شعراء جيل السبعينيات لطرح منجزهم الشعري الذي استجاب هو الآخر للمتغيرات الاجتماسياسية التي طرأت على البنية الاجتماعية العراقية تحديدا، على أن العقود اللاحقة قد شهدت مراوحةً في سير هذه القصيدة التي اعتراها الوهن وتوقف المحاولات التحديثية ماعدا ظهور القصيدة اليومية كنص شعري وجيز امتلك الاستقلال الدلالي، وقطعاً فإن وراء ذلك اسباب وعوامل دفعت بهذه القصيدة إلى الوراء في المشهد الشعري العراقي والعربي على حدّ سواء، ويمكننا إجمالها بما يلي .
لقد كان للظهور المتزامن لقصيدة النثر في مشروع مجلة شعرالبيروتية، ووجود محاولات لكتابة (الشعر الحر) وفق متبنيات الشاعر الأمريكي والت وايتمان في كتابة نص يتخلى فيه عن الوزن والقافية إلّا أنه (شعر غايته شعر) كما في قصائد امين الريحاني خاصة في ديوانه (هتاف الأودية) الصادر عام 1912 وكذلك في قصائد جبران خليل جبران، ولعل إقامة هذين الشاعرين في امريكا وقربهما من الشعر الحر الأمريكي الجديد كان سبباً في تأثرهما بهذا الشكل والكتابة وفقه، كما كتب حسين مردان وعدد من الشعراء العرب حسب هذا الشعر الحر الذي عدّه البعض - خطأً - كإرهاصات لقصيدة النثر العربية، في حين كانت قصيدة النثر الفرنسية (نثر غايته شعر) الذي وجد كتاب هذه القصيدة كأدونيس وانسي الحاج في النثر الصوفي العربي مثلاً جذرا تراثياً لهذه القصيدة، إذاً فقد وجد الشعراء العرب في هذه الأشكال الشعرية مايرضي طموحهم في التمرد وتلبية لحاجاتهم النفسيَّة والثقافيّة في تجاوز الشكل الكلاسيكي للشعر العربي، فقد تزامن ظهور هذه الأشكال في البنية الثقافية العربية مع ظهور مشروع رواد قصيدة التفعيلة في العراق وعدّتها نازك الملائكة اشكالاً تضرُّ في نقاء ورصانة الشعر العربي فقد أشارت إلى (أنّ طائفة من أدباء لبنان يدعون اليوم إلى تسمية النثر شعرا، وقد تبنت مجلة (شعر) هذه الدعوة الركيكة الفارغة من المعنى.. قضايا الشعر المعاصر ص 183).
إلّا أننا نعتقد أن وراء اعتراضها هذا سبب آخر غير معلن وهو شعورها بمزاحمة هذه الأشكال لمشروع قصيدة التفعيلة لما تتيحه من حرية مطلقة عبر التخلي عن الوزن والقافية، مما يحفز الشعراء على الذهاب إلى منطقة الشعر الحر وقصيدة النثر، وهو ما تحقق في العقود اللاحقة، على الرغم من أن عدداً من شعراء قصيدة النثر اللبنانية والسورية قد كتبوا بدأً قصائدهم وفق قواعد كتابة قصيدة التفعيلة، إلّا أنّ هذه الأشكال المحايثة المستعارة قد استمالت العديد من الشعراء العرب، خاصة بعد تبني مجلة شعر مشروع قصيدة النثر التي ذهب إلى صفّها عدد غير قليل من الشعراء خاصة عقد الستينيات ومالحقه من عقود، إلّا أن تمسك بعض الشعراء العرب بمشروع قصيدة التفعيلة وخاصة في العقد الستيني من القرن الماضي الذين شكلت تجاربهم الشعريّة اضافات تجريبية لهذه القصيدة مثل أحمد عبد المعطي حجازي وامل دنقل وصلاح عبد الصبور في مصر ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد في فلسطين ورشدي العامل وحسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف وفوزي كريم وفاضل العزاوي، وغيرهم في العراق وسواهم من الشعراء العرب الذين كوّنوا ظاهرة نجوم الجيل الستيني الذين دافعوا عن قصيدة التفعيلة باعتبارها النموذج التحديثي في الشعر العربي ووقفوا موقف الضد من قصيدة النثر باعتبارها شكلاً مستورداً يهدّد رصانة الشعر العربي، إذ كانت إضافتهم على المستوى التشكيلي/ البنائي والمستوى الدلالي والمستوى الإيقاعي تعد تجاوزا واستمرارا في تفعيل مشروع قصيدة التفعيلة، ويمكن القول إن القاسم المشترك للتحولات الاسلوبية في تجارب الستينيين هو (التجريب) وهو من مفاهيم أفق الحداثة المفتوح،  ففي الوقت نفسه ظهر شعراء قصيدة النثر بقوة ظهور شعراء قصيدة التفعيلة كما في شعراء جماعة كركوك كسركون بولص وصلاح فائق وجان دمو،  فضلاً عن الشعراء في سوريا ولبنان الذين تبنت تجاربهم مجلة (شعر) إذ تمكنوا من طرح تجاربهم كنموذج رائد في كتابة قصيدة النثر العربية وهو ما دفع بعدد كبير من الشعراء في العقد السبعيني إلى التأثر بهذا النموذج وكذلك شعراء العقود اللاحقة ولحد الآن، إلّا أنّ السبعينيين وأزاء شيوع وانتشار الشعر الحر وقصيدة النثر قد وجدوا أنفسهم في منطقة الإنكفاء على تجاربهم البسيطة التي لم تكن إلّا حذواً لتجارب شعراء العقد الستيني، كما أنّ أغلبهم ارتحل إلى منطقة قصيدة النثر والقصيدة الحرة مصطحبين في كتابة نصوصهم الظاهرة الصوتية المستقرّة في اللاوعي والتي لم تتمكن من إضافة منظورة ومحسوسة إلى هذين الشكلين اللذين يتطلبان نوعاً آخر وطبيعة أخرى تقترب من الدرامية وتكوين علاقات جديدة بين المفردات وبين الجمل المكونة للنص، فتبدّت في نصوصهم بنية الانقطاع والمجاورة على نحو واضح وهو مايتنافىٰ مع بنائية قصيدة النثر تحديدا التي تذهب إلى تحقيق الوحدة العضوية والموضوعية في النص، وربما هنالك أسباب أخرى لم يسع المجال للخوض فيها، على أننا نرى بأن ما أوردناه إضافة إلى القواعد الصارمة التي وضعتها الشاعرة نازك الملائكة كالاقتصار على البحور الصافية وسواها قد قطعت الطريق أمام الأجيال الشعريّة اللاحقة لتسمح لهم الامتداد إلى إضافات نوعية تشكل صيرورة جديدة لهذه القصيدة، إلّا أن الشعراء الستينيين وتبعاً للظروف الذاتية والموضوعية التي مرّ بها المجتمع العربي وتوقهم إلى تجاوز الخمسينيين وفق المستويات الثلاثة التي أشرنا إليها آنفاً قد تمكنوا من أحداث صيرورة جديدة لمشروع قصيدة التفعيلة، وماذكرنا من أسباب نعدها أساسية  في توقف وتعطيل المشروع التحديثي وصيرورته عند شعراء العقد الستيني ، وبمعنى آخر فإن عمر مشروع قصيدة التفعيلة لم يتجاوز العقدين على سبيل تكريسه كمشروع أحدث انقلاباً كبيرا في حركة الشعر العربي المعاصر عند ظهوره .