بانوراما القص القصير جدا

ثقافة 2019/05/13
...

أشواق النعيمي
 
 
لا شك أن لكل قاص رؤية ملهمة تعمل على تحديد ملامح خرائطه السردية وفق تقنيات تتفاعل وهوية المحتوى . في مجموعة “مسافات“ اعتمد القاص الأردني سمير الشريف تقنية التصوير البانورامي في عرض صورة مشهدية شاملة لأبرز قضايا الواقع العربي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أجاد المؤلف نحت حكاياتها داخل قوالب دقيقة تناسق بين المبنى والمعنى وتنماز بأمرين مهمين، الأول،  قوة فعل المفارقة التي جاءت في الشطر الثاني من القصة متنوعة بين الاستدراك الفعلي لفعل مسبق ، وصيغة جواب لسؤال، وجملة كلامية تنبثق من ديناميكية الفعل السردي . 
والثاني ، انفتاح القص على التأويل بتضمنه خطوطا ذات إحالات ثقافية عامة يمكن أن تفسر حسب ثقافة واجتهاد القارئ . يشخص القاص بالتقاطاته الدقيقة بعض مشكلات المجتمع العربي ، ان كانت على الصعيد العام أم الفردي . 
لعل أكثرها تجلي تلك القصص التي تناولت التفاوت والاختلال بين عالم الواقع والافتراض والذي قام بتصويره من زوايا مختلفة لإظهار صورة شبه متكاملة تفضح خباء الحقائق، ومنها حقيقة الشكل الأنثوي المتواري خلف صور وهمية، وتضخم الذات الأنثوية الإبداعية بفعل المجاملات الذكورية على حساب الإبداع الفعلي. يقول القاص في قصة استدراك ((أدركت متأخرة، تلك التي دخلت سوق الإبداع ، أن التصفيق الذي كان يملأ القاعة كان لرموشها الاصطناعية)). 
يقابل الانتقاد الموجه نحو المرأة المزيفة، إنصاف المرأة الإنسانة من خلال تسليط الضوء على معاناتها وتهميش دورها الفاعل في بناء المجتمع ووجودها القسري في منطقة الإهمال والخيبة والخذلان . يقول في قصة “ تمرد” ((المرأة التي مات عنها زوجها واحتضنت فراخها وظلت صابرة تتلقى الصدقات ، وقفت أمام المرآة تستجدي انتهاء العدة)) 
المرأة وكل ما يتصل بها من تفصيلات كانت العنصر الأكثر مواجهة مع كاميرا القاص وعدساته اللاقطة التي أشبعت زوايا حياتها نبشا لاقتناص لحظات عشق أو تمرد أو بقايا أحلام باتت مستحيلة . تصورها وهي تطارد حقوقا مسروقة في مجتمع مازال ينظر إلى المرأة كونها إنسانا من الدرجة الثانية . في قصة “ حقوق “ إشارة إلى أن الشعارات المطالبة بحقوق المرأة والدعوة لإنصافها مازالت قيد الأحلام ((مكبر الصوت يهدر مؤكدا على حقوق المرأة ، أم أحمد تنتظر بباب المؤسسة من يمد لها يد العون )).  
من المواضيع التي برزت في بانوراما القص القصير جدا، موضوعة الفقر وتداعياته على عالم الطفولة واقترانه بمواضيع ذي تماس مباشر كالتسول والبطالة وعمالة الأطفال، لا تقتصر تلك القصص على وجود الأطفال كشخصيات بطولية، حين استعان القاص بعناصر من عالم الطفولة كأدوات اللعب ولوازم الدراسة داخل أتون الحدث المأساوي. 
يقول سمير الشريف في قصة “ دموع “ ((نظر تلميذ الصف السابع في وجه أمه، لم يجرؤ على الكلام، اعتزل أخوته وكتب في دفتر النسخ: أرجوك يا عيد لا أريد أن أرى دموع أمي مرتين)). كما يشير في لمحات إلى مشاهد الاغتراب والشتات العربي الذي ينتهي دائما بالرحيل البارد إلى الموت بعيدا عن الأوطان. يكشف القاص في مجموعته عن تراجع المبادئ والقيم الإنسانية التي أتسمت بها المجتمعات العربية خاصة القبلية منها أمام هيمنة الماديات والمنافع الفردية واستشراء الرياء والمحسوبية والمتاجرة بالعقول والمبادئ الدينية، يقول القاص في قصته “نظرات” ((اعتلت المنصة احتفالا بمناقشة رسالتها، ارتبكت، هطلت عيونها بصمت. حتى الآن لم يتبين أحد إن كان بكاؤها فرحا، أم رهبة من نظرات كاتب رسالتها)). 
وتراجع الإنسان كقيمة عليا نحو القيم الأدنى ، وكمركز لكل الفعاليات الحياتية بالإنسحاب نحو الهوامش كوسيلة للهروب من القضايا المركزية الكبرى التي تشترك في رسم خرائطها أيادي خارجية طويلة يصعب الوقوف في وجه طموحها . يقول السارد في قصة “إنسانية “ ((راجع تقارير تفتيت البلاد وزرع الفوضى وتقويض الدول سريعا ليلتحق بمؤتمر الرفق 
بالحيوان)) .
يظل القص مراوحا بين مستويات المجتمع نزولا وصعودا ، إذ لم تكن السلطة السياسية بمنأى عن فلاشات عدسته النافذة الموسومة بالترميز والإضمار والتلميح ، حين صوب سهام النقد باتجاه المتسلقين والطارئين والفاسدين 
منها. 
تحتمل المجموعة القصصية الكثير من النقد، وتطرح بأسلوب تلميحي تارة ومباشر تارة أخرى الكثير من الأسئلة بأصوات أبطالها المبحوحة من أثر التساؤل والنداء والصراخ فالأسئلة، الظاهرة منها والمضمرة ثيمة القص على اختلاف المواضيع وتباين الآراء أبدع القاص في رسم خطوطها العريضة ونسج عباراتها الدالة في صور سردية تتسم بالتقنين اللغوي والترجمة الديناميكية لفعل القص.