العراقيون وما يحدث في غزَّة.. رؤية اجتماعيَّة

آراء 2023/11/14
...







 د. علي جواد وتوت *

إن للحديث عن غزة وما يحدث فيها وجهين كوجهي العملة، إذ كمتابعين عراقيين ربما يسقط في أيدينا ونحن نتحدث عما يحدث هناك، فالبلد المحتل أو شبه المحتل من الأولى على أكاديميه ومثقفيه أن يتحدثوا عنه، وعن أزماته ومشكلاته قبل الحديث عن شأن آخر. وفي هذا الشأن يمكن الحديث عن قضايا أخر، منها أن العراق ليس بلداً مجاوراً لفلسطين، ولذا فهو غير معني بما يحدث فيها، وأيضاً يمكن التعلل بمواقف الفلسطينيين من كل المصائب، التي حدثت وتحدث للشعب العراقي، منذ زمن الدكتاتورية البغيضة حتى اليوم. هذا وجه واحد للعملة، لكنه وجه مرعب يضرب بإنسانية ومشاعر العراقيين عرض الحائط.

غير أن الوجه الثاني يتضمن اندهاشاً كبيراً وتساؤلات عدة في ظل ما يحدث، اندهاش يقف وراءه الموقف الداعم من الولايات المتحدة وأوربّا لإسرائيل، برغم كل قوتها وجبروتها وبكل ما ترتكبه من جرائم بحق الإنسانية، (حتى يصل وزير الخارجية الأمريكي ومن ثم وزير الدفاع خلال أربعة أيام من عملية (طوفان الأقصى)، هذا غير إرسال حاملات الطائرات للمتوسط)، بينما يقف العرب وحكامهم على الحياد أو الهامش بإزاء ما يحدث للفلسطينيين، وكأنهم الجاني وليس الضحية، فليس هناك سوى هذا الإحساس الشعبي العارم بوجوب نصرة أخواننا وأخواتنا في غزَّة.

إما التساؤلات فربما تبدأ بالتساؤل المشكك، أليس ما يحدث هو نتيجة لأفعال حماس وجناحها المسلّح (كتائب القسّام)؟ فهل هذا هو ما تريده حماس؟ ألم يكن الأولى أن يعي قادة حماس أن ردّ فعل جيش الاحتلال الإسرائيلي سيكون الهجوم بكل العنف وبشكل واسع على قطاع غزَّة، كعقاب جماعي، يتمثل في عملية إبادة للمدنيين قبل المسلحين، والطلب من السكان المدنيين بالخروج من قطاع غزَّة، لأن الجيش سيستمر بقصف غزَّة كردّ فعل على هجوم مسلحي حماس على إسرائيل صباح يوم السبت السابع من أكتوبر/تشرين أول الحالي؟

إذ أطلقت حركة حماس يوم السبت عملية (طوفان الأقصى) تم خلالها استهداف إسرائيل بعدة آلاف من الصواريخ من قطاع غزَّة، ونفذ المقاتلون الفلسطينيون عمليات نوعية في العمق الإسرائيلي. ورداً على ذلك، أطلق الجيش الإسرائيلي عملية (السيوف الحديدية)، ودعا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنامين نتنياهو الفلسطينيين إلى مغادرة غزَّة مهدداً بتدمير حركة (حماس) وتحويل غزَّة إلى خراب. لكن ماذا نعرف عن كل القضية (القضية الفلسطينيَّة)، التي تُعدّ قضية العرب والمسلمين المصيرية؟ وماذا نعرف عن غزَّة نفسها التي تملأ أخبارها فضائيات العالم منذ اليوم العالم؟ 

هل نعرف أن مدينة غزَّة (التي تبلغ مساحتها (56 كم 2)، تعدّ أكبر تجمع للفلسطينيين في فلسطين، ولذا فهي تعدّ واحدة من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم (6 أشخاص في المتر المربع الواحد)، وهو ما يوازي ثمانية عشر ضعفاً عن المسافة التي يعيش فيها الإنسان العادي (فالمساحة الطبيعية للفرد السوي هي ثلاثة أمتار).

إما في التاريخ المعاصر، فقد سقطت غزَّة في أيدي القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وأصبحت جزءاً من الانتداب البريطاني على فلسطين. ونتيجة للحرب العربية الإسرائيلية عام 1948م، تولت مصر إدارة أراضي قطاع غزَّة وأجرت عدة تحسينات على المدينة. ومن ثم وفي عام 1967 احتلت إسرائيل قطاع غزَّة (عام النكسة)، وظلت تحت سيطرتها، لكن بعد اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينيَّة وإسرائيل عام 1993م، وبموجب اتفاق (غزَّة/ أريحا) الموقَّع في 4 مايو عام 1994، عادت السلطة المدنية على قطاع غزَّة إلى سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني. لكن الانتخابات التشريعية في القطاع عام 2006 أسفرت عن فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) واندلاع قتال بينها وبين حركة فتح، بعد رفض الأخيرة نقل السلطة إلى حماس، ومنذ ذلك الحين وقعت غزَّة تحت حصار إسرائيل ومصر. 

غير هذا، يمكن الإشارة إلى أنّ قطاع غزَّة الذي يبلغ مساحته (360 كيلو متراً مربعاً، بطول 41 كم2 وعرض يتراوح بين 5- 15 كم2) محاصر تماماً بعد أن قصفت طائرات جيش الاحتلال الإسرائيلي المطار في حرب عام 2008، كما أن البحر أمام غزَّة مراقب من قبل البحرية الإسرائيلية، فلا يستطيع أي فلسطيني الدخول والخروج من القطاع إلا بموافقة إسرائيلية، من معبرين هما (معبر رفح) على الحدود مع مصر، و(معبر أريتز) مع إسرائيل. وكما في كل حرب على غزَّة (2006، 20008، و2009، و20010، 2014، و2018) يردّ الجيش الإسرائيلي بقصف مكثف لا يبقي ولا يذر، كما يشدّد الحصار على القطاع عبر قطع المياه والكهرباء وإمدادات الغذاء والدواء والوقود، فكيف هي الحياة في ظل سيطرة إسرائيل على مقدّرات  الغزيّين؟

في تصريح لافت قبل أكثر من ستة أشهر من عملية (طوفان الأقصى) وصف المفوض السامي للأمم المتحدة، الحياة في غزَّة بالقول (لا أحد يتمنى أن يعيش هذه الحياة أو يتخيل أن إجبار الناس على العيش في ظل ظروف اليأس قد يؤدي إلى حلّ دائم). وهنا يمكن تصور واقع شباب قطاع غزَّة في ظل ظروف الحصار ونقص الخدمات فضلاً عن الاحتلال.

أما كيف ينظر الإسرائيليين إلى الفلسطينيين بعامة، وإلى سكان غزَّة بصفة خاصة، فإنهم يرونهم كـ(حيوانات بشرية) بحسب تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي (يوآف غالانت)، وهي ليست زلة لسان أو خطأ في الترجمة، بل إن التعامل مع سكان غزَّة طوال ما يقرب من عشرين عام وفق نظام فصل عنصري واضح يفصل بينهم وبين سكان باقي فلسطين باعتبارهم إرهابيين و(حيوانات بشرية) يؤكد هذه النظرة!!. كما أن تصريح وزير التراث الإسرائيليّ (عميحاي إلياهو)  حول قصف غزَّة بالقنابل النووية، يكشف ما تخبئه عقول القادة الإسرائيليين حول كيفية الانتصار على حماس وإبادة جميع سكان غزَّة بفعل (غزوشيما).


الانقسام حول غزَّة

في ظل نظام ديمقراطي يسمح بحرية الرأي والتعبير إلى حدٍّ كبير، تباينت مواقف العراقيين حول ما يحدث في غزَّة، والإشارة هنا ليست إلى الدولة، بل هي إلى مشاعر الأفراد العراقيين العاديين، من غير المشتغلين بالسياسة، فللحكومة العراقية موقفها الثابت، شعباً وحكومة، تجاه القضية الفلسطينيَّة، ووقوفه إلى جانب الشعب الفلسطيني في تحقيق تطلّعاته ونيل كامل حقوقه المشروعة.

إما على المستوى الشعبي، فإذا ما كان موقف أتباع التيار الصدري الواسع قد عبروا بتظاهرتهم العارمة ظهيرة الجمعة 13 من أكتوبر/ تشرين أول في ساحة التحرير عن رؤية الغالبية، فإن مواقف أخر يمكن للمتتبع تسجيلها في وسائل التواصل الاجتماعي، فبين معارض لما يحدث من حرب على غزَّة، وبين من يلوم أعضاء حركة حماس على ما نتج من اعتداءات إسرائيلية، تجد مواقف مختلفة، لكن عدداً لا يستهان به من العراقيين ابتعدوا عن بيان مواقفهم تجاه غزَّة.

ويمكنك كمتابع أن تلحظ برغم الرؤية الشعبية المؤيدة لطوفان الأقصى (هجوم حماس على مستوطنات شمال إسرائيل)، أن هناك انقسامات جلية قائماً على أسس عدة، سياسية وطائفية في معظم الأحيان حول الموقف من ذلك الهجوم وما نتج عنه من حرب على غزَّة، فمعظم رواد مواقع التواصل الاجتماعي في منصات (أكس) أو الـ(فيسبوك) يعبرون عن مواقفهم وفقاً لانتماءاتهم السياسية، فهناك كما تعرفون محور المقاومة (إيران، وسوريا، وحزب الله في لبنان)، والذي يحسب الإطار وتحالف قوى الدولة ضمنه، وهناك محور التطبيع والتهدئة، والذي يرى في الدعم الإيراني (الشيعي)، حاجزاً لا يمكن تخطيه لمساندة حماس أو المقاومة الفلسطينيَّة.  بالمقابل فإن بعض العراقيين الشيعة من يرى أن كل الحديث عن مقاومة الاحتلال الغربي هو حديث عن مقاومة الواقع الجديد الذي يشهد حكم الشيعة، فالتفجيرات الانتحارية والعمليات، التي كانت تستهدف أسواقاً ومدنيين أبرياء في محالهم ومدارسهم لا نجد من يدعو لها بالضد من جرائم الإسرائيليين في 

غزَّة. وبعيداً عن الجدل الذي يدور الآن في منصات التواصل الاجتماعي، يتطلب التضامن الإنساني من كل واحد منّا وقفة تضامن تعبّر عن رفضه لما يحدث من جرائم تجاه المدنيين العُزّل في غزَّة، مثلما استنكرنا ما حدث مع المدنيين في الجانب الآخر، والنظر إلى المقاومة وأفعالها باعتبارها تشكلّ الحصن العربي الأخير تجاه تغوّل إسرائيل وعدوانها وجرائمها ضد العرب والمسلمين في المنطقة.


* باحث أكاديمي في سوسيولوجيا السياسة