الوعي التاريخاني ليس بعيداً عن الغد

ثقافة 2019/05/13
...

د. رسول محمد رسول
 
تراني أذهب إلى أن نسبة الخطاب إلى النص كنسبة زغردة العصفور إلى جسد العصفور. بهذه البساطة أفهم خطاب المعنى أو دلالة القول، والخطاب (Discours) ينطبق على كل ما يُمكن فهمه أو الشروع بفهمه، وبما أن الفهم هو للإنسان دون غيره لكونه خاصته في الوجود عبر الوعي، فإن الخطاب صنو الإنسان.
وعندما استخدم تعبير “دلالة القول أو الخطاب” تراني افترض ضمناً التأويل (Interpretation)، فالمعنى قد يكون واضحاً، لكنه، ولمعرفة كُنْهُ دلالته، ينبغي لنا اللجوء إلى قدرة التأويل التي لا تقف عند السطوح فحسب لمعرفة قول ما تريد قوله الذات الإنسانية في خطابها، فهذا اللون - الأزرق مثلاً - أحبّه أنا وأميل إليه وارتدي ملابسي بلونه لغايةٍ في نفسي، ما يعني حضور ذاتي الإنسانية في علاقها الأنطولوجية والوجودية بالألوان وفي ذلك خطابي في هذا الشأن وما أدرى غيري بها لولا إعمال قدرة التأويل الإنساني ما يعني التفكُّر في الخطابات المقولة وعايةً ورعايةً لكي لا يستحوذ علينا التمسُّك بسطوح المعاني في الخطابات والأقوال. 
واعتبر قول ذاتي هو قائدي أو - وبحسب قول ميشيل فوكو - “الخطاب يجب أن يكون مثل قائد سفينة”؛ بل ويضيف في هذا المنحى: “على الخطاب أن يكون مثل القلعة والحصن والسور الذي نلجأ إليه” (تأويل الذات، ترجمة: الزواوي بغوره، ص 304، ص 305) بوصفنا ذاتاً إنسانية في تداولها للوجود الموضوعي عيشًا.
 
خطاب الذات
وهكذا هو الأمر مع ماهيّة التنوير، فهي خطاب مركوز في ذاتي أقيس به مفردات الوجود والموجود (الإنسان) والكوائن من بقية الأشياء. والتنوير الذي أقصده أن يكون الإنسان إنساناً وليس مُجرد كائنيّة بشرية غرائزية دهمائية أو رعاعية، وشرط أن تترتب على هذا المنحى جُملة تداولاتي في الحياة وصور العيش التي أمضي بها في دروب الوجود تهيئةً لأبدية افترض 
عيشها. 
وبذلك، فالتنوير هو خطاب مُتلبّسة به أناي وذاتي ونفسي ووعي وعقلي وإدراكي ومنحاي وسلوكي برمتهم على نحو متراكب متعاضد، فالتنوير حصني وقلعتي وسوري الذي يحميني من أعداء وجودي التنويري وهم ظلاميو العصر، ولا مشكلة لي مع الله سبحانه لطالما أن الله يريدني إنساناً لا مُجرّد كائن بشري تحدوه الغرائز البشرية والرعاعية والدهمائية التي تحدوها متاهات اللا - وعي، واللا – فهم، واللا - عقل، فلا أختلف مع الله - سبحانه - ولا يختلف معي في هذه المسألة، وبذلك فالتنوير هو خطابي وأن تاريخانيتي هي تاريخانية خارج أسوار ثنائية المُدنس والمُقدّس.
وعندما يصبح التنوير موجوداً في ذاتي تراكباً عضوياً، وذاتي موجودة في واقعٍ تاريخي على نحو منخرط، يعني ذلك أن التنوير هو الابن الحقيقي للعالَم وللتاريخ، والإنسان هو الموجود في العالَم والتاريخ وليس خارجهما، وهنا لا ذاتية مُطلقة تحفزني للعيش، ولا ميتافيزيقية مثالية أو ماورائية محضة تفكّرني وأفكِّرها تُهيمنان على وعي للعالَم والتاريخ والوجود بأن أكون. 
 
هنا وهناك
إن ذاتي التنويرية “هنا”، أعيشها وتعيشني، لكن ماهيّة التنوير “هناك” أيضاً، يعيشها غيري وتعيشه، فكيف أتلقّاها عندما تكون ضمن زمانية إنسانية يجرّبها غيري؟ هل أتلقّاها بالإيجاب أم بالسَّلب؟ سيكون التلقّي الخاص بي إيجابياً عندما تصدر عن إنسان يفهم ذاته بوصفه إنساناً يوجد قبالتي، أما إذا كان يريد أن يفهم ذاته على نحو بشري غرائزي رعاعي دهمائي فتراني أنأى عنها لكون ذلك يتقاطع مع ذاتي
 التنويرية.
ماهيّة التنوير “هناك” تعني أن العالَم يتسع للتنوير ولا يسدل ستائر نوافذه ضده لتقويضه وتفكيكه وعدمه؛ ذلك أن التنوير حالة مُمكنة في المجتمع الإنساني، لا سيما عندما نفك ماهيّة التنوير من أسرٍ ظلاميّات ما. إن وزمانية ماهيّة التنوير إنما هي زمانية موضوعية عندما تكون صحبة الغير أو الأغيار، وفي ذلك لا بديّة ضرورية فيصبح خطابها مُمكن التواصل معه، وإمكانية هذا التواصل هي رهن إشارة التفاعل في التواصل أو واقعيته المُمكنة بأن يكون - هذا التواصل - قائماً لكي تدْلق الذوات الفاعلة خطابها تنويري المنحى في كل 
الاتجاهات.
إن الإنسان التنويري هو إنسان تاريخاني، وأقصد بالتاريخاني: زمان + مكان + حدث. وهذه الثلاثية الذهبية المتراكبة بنيوياً وعضوياً هي قوام فلسفة التنوير، فلا ماهيّة للتنوير خارج الزمان التاريخاني، بالمعنى الذي حدّدناه، ولا يمكن تفكير في التنوير والتفكُّر به من دونه، وهذا المنحى لا يمثل خروجاً على النواميس الإلهيّة لكون الله سبحانه مدَّ في الوجود الإنسان بوصفه مخلوقاً له وقد أكرمه وعلّمه الأسماء كلّها، وجعل هذا المخلوق – الإنسان - يعيش بين السموات والأرض مأمولاً بأن يعيش في الحياة الأبديّة ظافراً بها، وكل ذلك يتم في زمانية هي زمانية الحياة الدنيا وزمانية الآخرة بحسب منطوق الكلام الإلهي، وما الإنسان في أصل خلقه وموته وخلوده من عدمه سوى أنه يمثل حدثاً في ثلاثية أضلاع التاريخانية.
 
خطاب إنساني
وبذلك، فالتنوير هو خطاب إنساني لا بد أن يكون مُشبعاً من الناحية التاريخانية بشروط الوجود التاريخاني نفسه كالتي حدّدنا معالمها بحسب تبياننا، ما يعني أن للتنوير زمانيته ومكانيته وحدثه، وهذه الثلاثية هي قوام التنوير، والزمانية تقترن بالإنسان فهو زمانيّة إنسانية وليست بشرية غرائزية لا بربرية ولا دهمائية، والمكانيّة تقترن بمكانيّة الإنسان فهي مكانيّة إنسانية وليست مُجرّد مكانيّة بشرية بالمعنى الذب حدّدناه، وكذلك الحدثيّة فلا بد أن تقترن بالإنسان لتصبح حدثيّة إنسانية لا مُجرّد حدثيّة بشرية غرائزية، وكُل ذلك يصوغ خطاب التنوير فيما لو أراد أن يقول ما يقول (خطابه هو ذاته أو خطاب غيره) في 
الوجود.
لا يتقاطع خطاب ماهيّة التنوير أو الماهيّة كما تتبدّى تنويراً؛ لا مع الدين ولا مع العلم رغم تقاطعنا مع البؤر العلمية التي تؤدّي إلى ضياع الإنسان أو هلاكه، ولا يتقاطع خطاب التنوير مع الماضي شرط ألا يغرق الإنسان في ماضويّة مقيتة تقدِّم نفسها كصوت مُهيمن؛ إذاً يبقى الإنسان يقول: “الفتى من قال ها أنا ذا”، الأمر الذي يعني أن الإنسان هو موجود إنساني في العصر الذي يعيشه لا بأمسه الماضوي الذي كان والذي ينغلق عليه سوى استثناءات عدّة. وكذلك لا يتقاطع التنوير مع الغد، فالتفكير التنويري لا بد أن يكون غدي في طبعه وهو يعمّر غده أو مستقبله.