أرشيف جريدة الصباح

عندما تكون الكتابة رُهـاقـاً

ثقافة 2019/05/13
...

رعـد فاضل
 
 
بدءاً: ما الرواية، وما الشِّعرية اللتان يُعنى بهما النّص هنا؟. أن تكون مادّة ما: روايةً، فهذا- أوليّاً ومدرسيّاً- يعني أنّ النثر هو مرجعيّتها الرئيسة. وأن تكون مادّة ما: شعريّة، فهذا يتطلّب مستوى عالياً وخاصّاً من تأمّل اللغة واِعادة انتاجها. الرواية عادة ما تخضع للاستجابات العقليّة، أي أنها تنحو منحىً تجانسيّاً لتحقيق المطابقة ما بين الأشياء، في الوقت الذي لا يستجيب فيه الشّعر لمثل هذه المعادلة، إذ إنّه لا ينحو إلّا منحى ايحائيّاً إشاريّاً، أي خفيّاً بسببٍ من أنّ الشّعرية بما تنتجه من علاقات لا تشتغل على الدّلالات بقدر ما تذهب بعيداً إلى (آثار) تلك الدّلالات، بل إلى ما تخلّفه هذه الآثار من (آثار مولَّدة) أخرى...، وبمعنى آخر: إنّ كلّ ما هو شعريّ لا يعمل إلّا على تشييد نوع متنوّع ومتشعّبٍ من الإدراك، لا على تفسير المُدركات كما في معظم نثر الرواية. ومرّة أخرى: الرواية هي نوع أقرب ما يكون إلى شكل تلفيقيّ يستند إلى خطاب الحكاية والإخبار، وهذا يعني أنّ الرواية ليس لها شكل أساسٌ، فيما الشّعر (بعامّةٍ) شكل أصليّ لا يقوم إلّا على نوع متميز من التّوتر. بهذا التّماشج بين شكلَي الشّعر والرواية وفقاً لهذا التّوصيف: إنّ (من يسكب الهواء في رئة القمر)* روايةٌ شعريّة (من نوع ما). 
ولكن كيف، ومن أيّ نوع؟. على ما يبدو سأبدأ تحت ضغط توصيفٍ لدريدا يقول: ((إنّ عصرنا هو نهاية الكِتاب، وبدايةُ الكتابة)). ولكن لماذا؟. 
من جهتي: لأنّ بشار عبدالله  من الذين يشتغلون على مثل هذا التّوصيف الحاسم في الأقلّ من جهة نصّه هذا، إذ إنّ الكِتاب- أيّ كتاب ما- يعني شكلاً اِجناسيّاً معيّناً بخطاب معيّن- ما يشتغل ويتفاعل في المسافة المحصورة ما بين غلافَينِ، وما بينهما ليس إلّا مساحة محسومة ومحدّدةً من كتابةٍ ببداية
 ونهاية. 
وبمعنى آخر إنّ هذا النصّ- الرواية/ الشّعر ليس جنساً قائماً بذاته تحت توصيف عامّ يعرَف بالرواية الشّعرية، لذا قلتُ آنفاً: رواية شعريّة (من نوعٍ ما). 
الكتابة حسب توصيف دريدا إذاً لا يمكن أن تكون هنا إلّا (كِتاباً) بلا غلافينِ، كتاباً مفتوحاً على شكلين أو أكثر من الأشكال التعبيريّة، وما يعنيني هنا: كيف تكتب رواية ليست اِخباريّة حسبُ، وشعراً ليس محكوماً بمفهوم القصيدة، ذلك أنّهما لا يشتغلان إلّا خارج الكِتاب؟ وهذا ما حرّضني على أن  أوصّف هذا النصّ بأنّه: شكل تلفيقيّ، مع عدم اِهمالي لما يقوم عليه النصّ من بناء حكائيّ، أعني: حبكة النصّ بوصفه رواية- شعريّة، في الأقلّ وفقاً لتوصيف النّاصّ نفسه. 
لكنّ هذا القيام لم يمنع النصّ من دفع هذه الحبكة إلى نوع من التّموج والتلاطم والانفلات، فجاءت الأحداث في أغلبها متنافرةً، مثلما كان سياق ظهورها في النص شعريّاً أكثر من كونه نثريّاً (بالمعنى الرّوائي العامّ لكلمة نثر)، على الرغم من أنّ السلطة التعبيريّة الأكبر مساحة في النصّ هي للسّرد الرّوائي. كما أنّ النصّ لم يلتفت إلى توطيد أيّة شخصية من الشخصيّات، سواء كانت مجهولة كـ ( السّعد، الفاتح، الصّلاح، أديبهم الوحيد)، أو مشهورةً  كأسماء مطربات وممثلات أو رموز كـ ( قرطاج، وعزرائيل، ثم عزازيل) فضلاً عن الإشارات: (طيطفون، لاوتزو، وجاك بريفيرا) التي ختم بها النصُّ نهايتَه المفتوحة. وما كلّ ذلك إلّا محاولة، على ما يبدو، للتفلّت من: هندسة الكِتاب، باتجاه ما يمكن أن أسمّيهِ: بريّة
 الكتابة.
صدّر النّصُ نفسَه بعبارة: (( في عالم يضيع فيه كلّ شيء، لا بأس أن تضيع الفكرة )). ولكن أيّ عالم، وأية فكرة ؟. قطعاً هو عالم منشطر على نفسه بسببٍ من ما اكتنفه من حروب وكوارث وعزلات واختناقات وتمزّقات اِنسانية وابداعية وفكرية وثقافية وسياسية ونفسيّة...، وصولاً إلى التمزّقات والحروب الشخصيّة التي خاضها النصّ نفسه ضدّ هذا العالم. ومع هذا ظلّ النصّ يأمل بالانفلات من هذا العالم- الواقع، إلى الآخر بوصفه حلماً- هدفاً، أو خلاصاً من نوع ما قياساً بالأوّل القامع، بدليل: ليندا هاملتون، ونبيلة عبيد، وايمان الطّوخي، وصوفي مارسو، وغيرهن...، ليس من الجانب الجماليّ والايروتيكيّ حسب، وإنّما من الجانب الإنسانيّ  الخَلاصيّ أيضاً.
 وبما أنّ كلّ شيء: الكتابة، الجَمال، الجنس، التّنوع، الاختلاف، والحريّة؛ ضائعٌ، فما قيمة أن لا تضيع الفكرة نفسُها بوصفها الجامع لذلك كلّه؟. كأنّ هذا التصدير يدفع باتّجاهين: اتجاه لتسويغ تشظّي الفكرة بوصفها البؤرة التي تُبنى منها وعلى وفقها حبكةُ النص، بسبب من تشظّي الظهير الدّراميّ للفعل الروائيّ بوصفه شرطاً من شروط الرّواية بعامّة، وهذا ما وفّر للنص متّكأ مريحاً يبيح له التّموج والتلاطم دون قيد أو شرط، من جهة أنّه يعي هذا الضياع ويقصده. واتجاه آخر يحمل معنى دلالياً يعمّق الإحساس بضياع العالَم - الفكرةِ الذي تؤسّس له الكتابة. إذ ما القيمة الإبداعية في أن تُبعث الكتابةُ- الفكرةُ على أساس ذكرياتها المُرّة قياساً بأن تُبعث في عالم جميل قابل للتحقّق والعيش، تعيد هي نفسُها اكتشافه وتأثيثه تأثيثاً 
جديداً؟. 
وبهذا المعنى يكون هذا النصّ ضرباً من لعبٍ، لكنّه من النّوع الذي يراه دريدا ((يعود إلى نفسه دائماً ماحياً الحدود الإجناسيّة التي كانت تعتقد بأنّ في إمكانها تحديد حركة الدّلالات، انطلاقاً منها)). ومن هنا في ظنّي يتّأتى تميّز آخر لهذا النصّ، وبالضبط من جهة كونه سيظلّ إلى وقت قادم: تدشينيّاً، أو بدئيّاً نوعاً ما. لا بدّ أيضاً من فحص عبارة الإهداء المفخّخة لانطوائها على نوع من الدّفاعيّة والمقاومة إزاء القراءة: (( أخي الشّاعر رعـد فاضل، ضيّعتُ نفسي داخل هذا النص)). 
بهذا الاهداء المفخّخ كأنّ بشّار عبد الله يزيّن لي ضياعه ولكن على أساس ((..لا بأس أن تضيع الفكرة)) لأنّه أصلاً ما عاد يجيد إلّا الكتابة- الضياعَ، الكتابة- الوَحشةَ التي لا تؤسّس من حولها إلّا نفوراً وتصادماً، ثمّ لأنّه مضيَّع أصلاً من عالَمَيهِ: العالم القامع الذي حوّله قسراً لا اختياراً إلى مواطن أبديّ في الضّياع، ووصفه بــ (هنا)، والآخر المحتَمَل المحلوم به الذي يقف على قمّة المستحيل بالنسبة إليه ووصفه بــ(هناك)، ولا فرق جوهرياً عندي إن كانت هذه الـ(هناك) خاصّة بـ (الفكرة الضائعة) أو بـ (العالم- الحلم - الحلّ) لأنّهما بالنتيجة سلطتا هذا الضياع، الأوّل بقوّته القامعة، والثاني بفوقيّته وإصراره على أن يظلّ حلماً ممتلئاً غير أنّه في الوقت نفسه صعبُ المنال، بل يكاد  يكون من أعمال الوهم بالنسبة إلى النّاصّ طبعاً. إنّ ما أكتبهُ هنا ما هو إلّا جسّ نقديّ غير أنّه ذو طويّة تكتيكيّة، جسّ بلا قفازات منهجيّة تلبيةً لإشارة خفيّة من بشّار نفسه عبر الجزء الثاني من اهدائهِ: ((.. لكنّني أعرفُ أنّ مجسّاتك ستدلّك عليّ))، وكذلك تلبيةً لتوصيف للتّوحيديّ بما معناهُ أنّ النقد هو كلام في كلام. بقي أن أستدرك وأشير إلى أنّ (التّزاوج) الذي افترضه جَسِّي هذا ما بين الرواية بوصفها سرداً منتظماً، والشّعر بوصفه سرداً متشظّياً – بالمعنى الذي ذهبتُ إليه- هو تزاوج إباحيّ كأنّه (الرّهاق) الذي هو حسب شتراوس (( كالّلغز المحلول لا يقرِّب إلّا أطرافاً كان من المقدّر لها أن تظلّ منفصلة، تماماً كما يفعل الجواب عندما يوفّق إلى الاتّصال بسؤاله خلافاً لكلّ التوقّعات)).
_______________
* من يسكب الهواء في رئة القمر؟، رواية شعرية، ـبشار عبد الله ـ ألف ياء الزمان ـ المجلّد الثالث - 2005