أحمد عبد الحسين
خذ الحقيقة واعطني بدلاً عنها قصة جيّدة السرد. هذا ما نقوله يومياً للعالم، لا بألسنتنا بل بحقيقة أحوالنا، فنحن نقف أمام القصص المحبوكة عن واقعنا أكثر من وقوفنا أمام هذا الواقع. قد ننكر القصة بادئ الأمر حين نسمعها لكننا شيئاً فشيئاً نناقشها ونردّ عليها ونعدّل تفصيلاً هنا أو هناك ثم نعتاد عليها إلى أن تصبح هي نسختنا الوحيدة عن الحقيقة.
من هنا خطرُ سرد التاريخ جمالياً، في الرواية والسينما تحديداً، إنها نسخة جميلة عن واقعة ما، نغضّ أبصارنا قليلاً عن تحريفها للواقع بعونٍ من جمالياتها "التشويق والإثارة والغرائبية والسحر الذي في اللون والصورة والموسيقى"، ونكون ونحن نشاهد أو نقرأ معبئين بفكرة أنّ المحتوى الموضوعيّ في العمل الفنيّ يقبع في هامش قصيّ، وأن الأهمية العظمى هي لمحض الفنّ لا للرسائل التي فيه.
لكنّ الرسائل تظل تحفر عميقاً في الوجدان أرَدنا أم لم نرد. يحضرني هنا مثال عن السينما. فمنذ أولى الأفلام الأميركية في بدايات القرن الماضي كانت صورة العربيّ مادة تهريجية كاريكاتيرية "بما يستلزمه الكاريكاتير من تضخيم في الملامح". كانت المتعة لا تكتمل إلا حين يحضر العربيّ على هذه الشاكلة حتى غدتْ نمطاً مهيمناً. لكنْ هذه المتعة المنمّطة فعلتْ فعلها وأوصلت رسالتها تامة غير منقوصة إلى أن ركزتْ في نفس الأميركي بل الغربيّ بعامة صورة العربيّ الجبان زير النساء الحقود كثير المال والذي يكره الناس.
نظرة الغربيّ إلى العرب أسستها هذه الفنون والآداب، وظلتْ هي النسخة الوحيدة التي يملكها المواطن الغربيّ عن حقيقة العربيّ إلى أن أتت ثورة الاتصالات فصار متاحاً للوجوه أن تتقابل بلمح البرق من دون حاجة إلى وسيط أدبيّ أو فنيّ يحرف الحقائق بجمال فائق!
القضايا العربية الكبرى كقضية فلسطين وصلت إلى الغربيّ مشوَّهة، عن طريق الساسة أولاً لكنْ بشكل مؤكد عن طريق السينما على يد مخرجين يعرفون صياغة مشهد جميل لكنهم شهود زور في ما يتعلق بالرسائل التي يبثونها.
وإذا قيل يوماً ما بأنّ في كل واقعةٍ ثلاثة أمور: روايتك وروايتي والحقيقة. فإنّ قضية فلسطين لم تكن لها رواية عالمية سوى الرواية الغربية التي صيغتْ لتكون بدلاً عن روايتي والحقيقة معاً.
العالم مندهش مما يحدث اليوم في غزة على يد المحتلّ الصهيونيّ المتوحش، لأنه يرى بعضاً من الحقيقة التي تركها حين اكتفى بقصة مكذوبة لكنها جميلة وجيّدة السرد.