علي المرهج
إنه صراع أيديولوجيات حتما ولكنه يتخذ من «التأويل» منهجا في توظيف النص والواقع لصالح متبنيات الفكريَّة بما يجعلها ذات منافع ذاتيَّة ترفع شعار الدفاع عن «الهوية الوطنيَّة!. صراع الأيديولوجيات يتأتى من الاختلاف في الرؤية حول إمكانية تحقيق نهضة ما وفق متبنيات قد تكون بعضها لها أصل واحد كمختلف عليه في الفهم، وهنا يدخل صراع التأويلات
فقد يختلف السنة والشيعة حول فهم الإسلام وتفسيره وتوظيفه لصالح النهضة المرجوة، وقد يختلف السنة مع السنة أو الشيعة مع الشيعة أو الكلدان مع الآشوريين في فهم النص وتفسيره وتوظيفه، وهذا صراع تأيويلات حول نص واحد ولكنه يُنتج أيديولوجيات متصارعة في الوقت ذاته.
هناك أيديولوجيات متباينة في النظر للنهضة المرجوة، فبعضهم يراها تتحقق في الحفاظ على الهوية الوطنية، وآخر يراها تكون ناجزة في الانتماء للهوية القومية، وغير هذا وذاك يرى أن تحقيق النهضة مرتهن بحلم نزوعنا الأممي، فهو عند الماركسيين في تحقيق الاشتراكية والسعي للوصول للشيوعية، وعند الإسلاميين إشكال على مفهوم الهوية الوطنية والهوية الأمميَّة، لأنَّ الإسلام رسالة سماويَّة جاءت لإنصاف المظلومين والمضطهدين، لذلك فلا يصح تصور وجود هوية غير الهوية الإسلامية العابرة لحدود التصور الوطني للهوية لأنَّ الإسلام رسالة عالميَّة شاملة، ومن هنا جاء مفهوم «عالمية الإسلام» «تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا».
تدخل الذات في معطيات الصراع عند التأويليين والأيديولوجيين، وقد يتداخل ما هو تأويلي ذاتي مع ما هو أيديولوجي يهدف لتحقيق مصلحة لجماعة ما وفق فهم عقائدي تتفق عليه الجماعة التي تستهدفها المنفعة.
قد يرتبط التأويل في نص له حضوره وأحيانًا له قداسته، بينما في الأيديولوجيا تجد أنها تتحرك من جهة واحدة إلى جميع الجهات بقصد إلغاء الأبعاد لصالح بعد واحد ألا وهو الرؤية التي أسسها منظروها، وهي في الأغلب الأعم رؤية تلفيقيَّة، تأخذ من كل نتاج معرفي أو عقائدي ما يصلح لتحقيق ما يصبو له منظروها، فقد يؤول الإسلام ليكون إسلامًا اشتراكيًا ـ على سبيل المثال ـ فيكون عندنا «الإسلام اليساري»، والحال ذاته ينطبق على الذي يُنظّر للأيديولوجيا الليبراليَّة، فيذهب للتراث الإسلامي ليكشف لنا عن «إسلام ليبرالي».
صراعات التأويلات في»اليمين واليسار في الإسلام»، ويُزيد عليه المناهض له «الليبرالي» في النبش بهذا التراث، بل وفي النص القرآني عمّا يؤيّد رؤيته، فنجد الإسلام يتشظى تارة بسبب التأويلات وأخرى نتيجة الصراعات الأيديولوجية، وثالثة: كلاهما معًا.
مرة يكون اشتراكيًا أو شيوعيًا، فنجد أبو ذر الغفاري يحضر وسلمان المحمدي وعمار بن ياسر يحضر في كتاباتهم، وأخرى نجده ليبراليًّا، يُدافع عن الحريات «لا إكراه في الدين» و «جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا»، «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة».
أغلبهم يقرأ التراث والنص القرآني على قاعدة «ويل للمصلين» ويتغافلون على تكملة الآية، بمعنى أنهم يُمارسون على التراث والنص المقدس «قراءة ليست بريئة» بتعبير (ألتوسير).
كل ما ذكرته يدخل في باب صراع التأويلات للتراث الإسلامي والنص المقدس، ولكنه في مجمله صراع أيديولوجي يسعى كل جماعة تأويلية ما لاحتكار التراث والنص معًا.
صراع الأيديولوجيات أصل في تغييب الهوية الوطنيَّة، وصناعة أوهام تصورها وفق خطابات لا تاريخيّة تصنع رؤية مفاهيميَّة عن الهوية تتناسى بعدها الوطني، بل والفرادني أحيانًا، لتصنع لنا عوالم أنتجها فضاء المخيلة مشتق من فضاء الرؤية المثالية أو التأمليَّة لها، وهو تصور مفارق للتاريخ ومغاير للواقع المعاش الذي ينشد الهوية الوطنيَّة بأبعاد شتى، أهمها المكان والزمان والشعور النفسي بالانتماء.
عقدة بناء الهوية الوطنيَّة في مجتمعنا العراقي هو الصراع الأيديولوجي الذي كان منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة في بدايات القرن العشرين وإلى يومنا هذا.
ما يُميز الأيديولوجيا نزوع مفكريها كما ذكرت للتلفيق الذي تكشف عنهم مساعيهم لخلط ما هو فلسفي مع ما هو أيديولوجي، وما هو ديني عقائدي وطقوسي وثيولوجي ليدمجوه في رؤيتهم بقصد تزييف الواقع، ولا يهم منظريها سوى أن يكونوا في الصدارة، ولا ضير أن يدعوا أنّهم يستمدون حضورهم وتأثيرهم من العالم الأرضي أم من السماوي، والمهم أنّهم حاضرون وفاعلون وهم المتحكمون في إيقاد شعلة الصراع أو إطفائها.
ميزة مُنظري الأيديولوجيا أن لهم سحرًا في التأثير على جماهيرهم الذين يُصدقون بهم ويُضحون بأرواحهم من أجل ما طرحوه من أفكار ولو كانت تتضاد مع أو تناقض الرؤية العقلانيّة والمنطقيّة ولا مصداق لها ولا علاقة لها بالعالم الموضوعي، ولكن الجماهير يحركها الخطاب الحماسي والعاطفي والوجداني.
ولا مشكل معرفيًا في وجود الأيديولوجيا حينما تكون تعبيرًا عن رفض سيادة نمط سلطوي ما أو حينما تكون رفضًا لهيمنة فكر اجتماعي يُكرس ما هو نكوصي أو ارتدادي، وبتعبير الماركسيين رجعي.