مقدّمو البرامج.. يثيرون الجدل ويسوّقون الفكرة ويصادرون المواقف
رحيم رزاق الجبوري
في حوار تلفزيوني أجرته إحدى مقدمات البرامج مع سياسي كبير في حركة حماس، بعد حادثة طوفان الأقصى، كانت أسئلتها مستفزة، وتمحورت حول المدنيين الصهاينة، وماذا حل بالرهائن، وهل ستعتذر حماس عن هجومها لإسرائيل؟! وحينما كانت تسأله، كان الشرر يتطاير من عينيها، وتقاطعه بين الحين والآخر، وهي متحملة عليه سلفا؟
في الوقت ذاته كانت العواجل الحمراء تهطل كالمطر على شريط أخبار القنوات الفضائية، وهي تفجعنا بوقوع مئات الشهداء غالبيتهم من الأطفال والنساء جراء القصف الإسرائيلي على غزة.
وبعيدا عن سياسة القناة ومنهجها؛ فعند مشاهدتك لهذه المقدمة، التي لا تمتلك أي أدوات تسعفها لتظهر للملايين وتناقش أحداثا مأساوية، فهي تفتقر لثقافة الحوار وآدابه، وفاقدة لقواعد المهنة، وأصولها، ولا تصلح لتبادل الحديث بسبب ركاكة لفظها ونطقها للحروف الأبجدية، إضافة إلى شعور المتلقي بالنفور من صوتها المزعج؟ ليكتمل مشهد هذه المقدمة الكارتونية، وتتفضل علينا قناتها، بذكر أخبار غزة، وعواجلها التي لا تنتهي؛ وذلك حينما نعتت -حسب وجهة نظرها- الشهداء الذين دفنوا تحت الأنقاض بأنهم قتلى؟ فهذه هي سياسة الإعلام المضلل الذي لا يجلب المنفعة ولا العلم، ولا التقدم ولا المعرفة. ويصدر إلينا النفايات والقشور ويريد إقناعنا بأنها ورود؟ حين أكملت حوار هذا النموذج الدخيل على الوسط الإعلامي، قفز إلى ذهني المثل الذي يقول: "كثرة الكلام عن العسل؛ لا تجلب الحلاوة إلى الفم".
أساسيات
يقول صادق عبد الرزاق (مذيع وإعلامي من العراق): "يعد المذيع والمقدم أحد اللوحات والواجهات الفنية للبلد. ولطالما ارتبطت أسماء كبيرة من هذه الفئة ببلدانهم. وأصبحوا مثالا للاتزان والرصانة والحضور الثقافي والمعرفي. وعليه لا بد أن يمتلك المقدم أدواته الكاملة، وفي مقدمتها الموهبة والصوت والأحساس ولغة الجسد والإطلالة وطبيعة الإلقاء. بعدها تأتي أدوات مساعدة مهمة كاتقان اللغة العربية بشكل كامل، وحتمية خلو اللسان والشفتين والأسنان من العيوب، فضلا عن الحركة المرنة للفك والرأس".
حديث المقاهي
ويضيف: "نلاحظ اليوم وللأسف، تطغى الركاكة على بعض العاملين في هذا المضمار؟ وهذا جاء بسبب غياب التواصل مع الجذور الرصينة التي يستمد منها المقدم؛ الخبرة والكفاءة وأساليب التعامل مع الضيوف، من خلال مثولهم أمام لجان اختبار متخصصة؟ وأتذكر في بدايات عملي كمذيع ومقدم، خضعت برفقة عدد من الزملاء إلى لجنة اختبار تألفت من خيرة الأساتذة الأفذاذ، يترأسهم المرحوم غازي فيصل، وعضوية المرحوم حسين حافظ، ونجم الجبوري. وبعدها دخلنا دورة تدريبية مكثفة، وبقينا في ظلهم، إلى أن أوصلونا إلى بر الأمان. وبغياب هذه المعايير واستفحال الأدلجة والتأثير السياسي على المشهد الإعلامي العراقي؛ نرى بعض مقدمي البرامج في الوقت الحالي، يصادرون رأي الضيف ويجنحون لإثارة السجالات الشخصية وغيرها من الأمور الخارجة عن المهنية. وللأسف فالدور الدخيل على إعلامنا يلعبه رماة التخلف الإعلامي من خلال تصدير قناعات ورؤية خاطئة تولدت لديهم؛ بأن تسخين الحوار يجب أن يزيد حرارته المقدم؟ الذي لا يعلم بأنه قد وقع في الفخ وغابت عنه الموضوعية والمهنية والحيادية، لتتضح الصورة أمام المتلقي؛ وكأنه يشاهد ويصغي إلى حوار في إحدى المقاهي الشعبية؟!".
قنواتٌ مسيّسة
يشير الكاتب والقاص العراقي، آلان الأمين، إلى "أن القنوات التلفزيونية مسيسة، ولا تبحث عن الرأي والرأي الآخر؛ وإنما لديها رأي محدد. ويقوم مقدم البرنامج بدوره في قمع الرأي المخالف لسياسة القناة بمقاطعة صاحب الرأي المخالف، أو تأويل كلامه بما لا يقصد أصلا أو بتسفيه رأيه؟ وأحيانا تقوم القناة باختيار ضيفين غير متكافئين؟ فعلى سبيل المثال في إحدى المرات، كان حوار في إحدى القنوات العربية يدور عن قرار يخص الثروة النفطية؛ فاستقبلت القناة ضيفين أحدهما خبير نفطي كبير، سبق وإن شغل منصب وزير النفط منذ سنوات بعيدة، وعلى الطرف الآخر كان الضيف صحفيا شابا لم يكمل الثلاثين من العمر. فأخذ الأول يتحدث عن تفاصيل فنية وبالأرقام؛ بينما لم يتمكن الطرف الثاني إلا بالحديث بشكل عام، وبالتالي مال المشاهد إلى رأي الأول؟!"
أبعادٌ مركبة
من الأردن يحدثنا الإعلامي حسين عدوان، بالقول: "إن إثارة الجدل واحتكار الرأي لدى مقدمي البرامج؛ هما مشكلتان ذات أبعاد مركبة. وللأسف، آخر من يتحكم فيها هم مقدمو البرامج أنفسهم؟ وأهم أبعادها هي تبعية المؤسسات الإعلامية من حيث التمويل والوصاية لأجندات تفرض التركيز على بعض الموضوعات في وقت ما؛ لأجل إشغال الرأي العام أو لفته إلى قضايا معينة، وهو ما يجعلهم يستضيفون أشخاصا من المعسكر، الذي لا يخدم هذه الأجندات، ويطلقون عليهم مقدمي البرامج الشرسين، فيصير الحوار مجرد احتكار للرأي وغياب تام للمهنية؛ لننظر مثلا في تركيز شبكة CNN المستمر على قضية الحجاب في إيران، بغية تسويقها على أنها أكبر مشكلات الدولة بل الشرق الأوسط، وحين استضافت مذيعة الشبكة وزير الخارجية الإيراني، ركزت على هذا الموضوع إلى درجة جعلتها تقاطع الوزير خمس مرات خلال أقل من 3 دقائق! وهذا النموذج يتكرر بشكل أوضح في الإعلام العربي في الموضوعات، التي تغذي خلافات الدول السياسية أو القضايا الطائفية وغيرها".
مستنقع (الترند)
ويضيف: "إن دخول العالمِ في مستنقعِ (الترند) إذا صح التعبير، وهذا المستنقع الذي أجبر الجميع بطريقة أو بأخرى على أن يمتلك رأيا في الأحداث الشائعة، وضمن هذا (الجميع) يأتي مقدمو البرامج، فتراهم يستضيفون أشخاصا للحديث عن القضايا الساخنة، ثم تجدهم يحولون الحوار إلى فرصة يعبرون فيها عن آرائهم الشخصية أكثر من السماح للضيوف بمناقشة القضية! أما البعد الأخطر في القضية فهو انعدام التدريب للإعلاميين أو كون كثير من الإعلاميين أنفسهم لم يدرسوا الإعلام! فقد يكون مبررا مقاطعة الضيف وإحراجه واحتكار الرأي في سياق الخضوع لأجندة المؤسسة الإعلامية، لكن ما الذي يبرر مقاطعة إعلامي لضيوفه الذين يتحدثون في الشؤون العادية العامة؟ هو باختصار انعدام تدريب وخلط شنيع في الأدوار".
أساسيات ومحددات
بينما تذكر الكاتبة أميرة إبراهيم من سورية، رأيها بهذا الصدد، قائلة: "في ضوء المتغيرات التي تحدث في الإعلام اليوم، فإن أي حوار أو لقاء عبر التلفاز أو الإذاعة فعلى المقدم أن يتمتع بأساسيات ومحددات مهمة وواضحة. فمقدمو البرامج أو الصحفيون وهم الذين يعدون السلطة الرابعة؛ وعليهم الخوض في الحوار الصحفي أو اللقاء التلفزيوني بكل شفافية، والتحضير الجيد والبحث المعمق في الموضوع والاستماع إلى وجهات النظر المختلفة من خلال استضافة أشخاص متخصصين في مجالهم، كما يجب على مقدمي البرنامج استخلاص الأسئلة المنطقية من إجابات الضيف وعدم مقاطعته وإعطائه الوقت الكافي، ليبين وجهة نظره، فنرى بعض المقدمين في الآونة الأخيرة يتحدثون بفوقية مع الضيف وخاصة في البرامج السياسية والرياضية، وهذا الأمر غير لائق قطعا، ويجب معالجته من قبل المؤسسات الإعلامية. وأحيانا قد نجد منهم من يحول الموضوع والفكرة إلى رؤيته الشخصية، أو يحاول إحراج الضيف بأسئلة غير مفهومة، أو فرض رأيه على الضيف؛ وهذا يعدُّ خارجا عن أخلاق ومهنية الصحفي أو المقدم، الذي عليه أن ينتبه لها. وأن يهتم كذلك بطبقة الصوت والمظهر الخارجي والصورة المرئية، من خلال وضعية الجسد وحركاته وسلوكه العام، وإتقان اللغة السليمة الرصينة والابتعاد عن العامية حتى لو تكلم بها الضيف أحيانا. وألا يعتبر نفسه أهم من الضيف؛ فالهدف من اللقاء هو ما يقوله الضيف وليس المحاور حتى وإن طالت مدة الإجابة؛ فعليه أن يكون لبقا متفهما لمهنته، ويبتعد عن النرجسية واحتكار الرأي".
حيادية إنسانية
ويقول الكاتب والقاص العراقي إبراهيم كمين الخفاجي: "بعد الثورات المفصلية في حياة المجتمعات والدول (الثورة الفرنسية، والألمانية، والروسية، والصينية) التي أسس لها مفكرون وفلاسفة من طراز جان جاك روسو، وروبسبير، وفولتير، وديكارت، وماركس؛ هؤلاء والثورات ومعهما حركات التحرر؛ أسسوا لمفهوم الدولة الحديثة التي أقانيمها الثلاثة (أرض، شعب، حكومة)، والشعب في الدولة الحديثة هو مصدر السلطات، وله برلمان يمثله، والأهم له سلطة إعلام تراقب السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، من هنا يجب أن يكون الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد، والميديا إعلاما يجمع عدة علوم وآداب وفنون، منها: علوم القانون والنفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والنقد. ويجب أن يكون حقل الإعلام الفضائي وبالخصوص مقدمي البرامج أن يتصفوا بعدة مميزات وصفات وشمائل منها: إلمامهم بما ذكرت وأن يتحلوا بالموضوعية، واتقان فنون الإيجاز والتكثيف والدقة وسعة الصدر واللباقة، إضافة إلى معرفتهم بقواعد اللغة الرسمية ونحوها، وأنا دائما أقول وأردد على الإعلامي، ومقدم البرامج أن يأخذ من مهنة الطبيب الجراح عمله في صالة العمليات، فهو لا يتعامل بالعواطف مهما كان المريض قريبا أو غريبا. أما ما نراه خصوصا في هذا الكم الكبير من الفضائيات والبرامج الحوارية؛ فأقول عنها إنها برامج كم تفتقد للنوع والكيف. لا بل من خلال متابعتي للقنوات الأجنبية الشهيرة وخصوصا بعد حرب أوكرانيا وحرب غزة؛ أن الأغلب الأعم من المقدمين والمحاورين يغلب عليهم الاستعلائية والفوقية والتعصب والنرجسية والطيش والتكبر وضعف اللغة وسطحية الثقافة. ولو جرى استطلاع لما حصلنا إلا على أسماء قليلة يُعتد بها وتنطبق عليها مسطرة المهنية والاحترافية والعلمية والموضوعية والحيادية الإنسانية. وهنا أركز على الحيادية الإنسانية، بخلاف ذلك يكون التقديم أقرب إلى صالات مزايدات أو مناقصات أو أسواق هرج وحلبات لصراع الديكة. وهذا يتنافى مع مهام الإعلام كسلطات رقابية؛ هي عين ولسان الرأي العام القانونية والمنطقية والإنسانية".