أحزابٌ وجماهير ودول

آراء 2023/11/19
...

 د. عدي حسن مزعل

أسابيع قليلة تفصلنا عن انتخابات مجالس المحافظات، وذلك حدث يستدعي إعادة قراءة لبعض العناصر الفاعلة والمؤثرة فيه، بل الصانعة والمسؤولة عن نجاحه أو إخفاقه. وفي هذا السياق تلعب الأحزاب، ومستوى وعي الجمهور وخياراته، فضلا عن ظاهرة خطيرة تتمثل بالتدخل الخارجي، عناصر لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن الانتخابات.

ربما لا يفوت المتابع، من أن معظم الأحزاب الفاعلة في الساحة العراقيّة، لا ترى في الديمقراطية سوى أداة للوصول إلى السلطة.
كما أن بنية تلك الأحزاب وبرامجها تخلو من الممارسة الديمقراطية، فالزعماء هم هم منذ عام 2003، وحتى الزعامات التي ظهرت بعد ذلك التاريخ فأغلبها يعود إما إلى عرف توريث القيادة أو إلى الخلافات والانشقاقات داخلها، وهو أمر يشير إلى التنافس المحموم على السلطة، وإلى غياب الثقة، وأخيراً إلى الاستبداد في الرأي.
  وهكذا، فإنّ أحزابنا تدعو وتشترك في عملية انتخابية هي ذاتها لا تمارسها داخلها، بل إنّ الديمقراطية لا وجود لها في أدبياتها.
ولذلك، لا مبالغة في القول: من أن إفراغ الديمقراطية من مضمونها، وإبقاءها في إطار صوري شكلي، مصدره أحزابنا الحاكمة.
فبدلاً من أن تعمل هذه الأحزاب على تعزيز الديمقراطية والحفاظ عليها، بوصفها مكتسباً لا بديل عنه سوى الاستبداد، نلاحظ أنها تقوض هذا المكتسب، ولا تعترف به إلا حين يخدم مصالحها، ويزيد من هيمنتها وسلطتها.
ولا شك في أن أي بديل غير الديمقراطية، في مجتمع، كمجتمعنا، مآله الاستبداد لا محالة.
إذ ما زال جمهوراً واسعاً يحن ويتغنى بتجربة الحاكم الواحد والحزب الواحد.
وذلك يعني أن مجتمعنا لم يكتسب الحصانة الكافية التي تقيه آفات الاستبداد، فهو غير محصّن من عودة الدكتاتورية، التي ما زال الكثير يدعون إليها بوعي أو غير وعي، ومن غير الاكتراث لمخاطرها وآثارها، خاصة وأن الكثير مما نعيشه اليوم ما هو إلا نتاج لـــ حقبة الطغيان، حقبة ما قبل عام 2003، والتي خلّفت لنا تركة ثقيلة من مشكلات وأزمات داخلية وخارجية ستبقى آثارها لعقود طويلة.
أما الجمهور فالحديث عنه ليس أمراً بسيطاً عرضياً في سياق موضوعنا، إنه المادة التي من دونها لا يمكن الحديث عن الانتخابات،  فهو صانع السلطة ومن دونه لا تكتسب أي سلطة شرعيتها، وذلك هو المفهوم الحديث لشرعية السلطة، إذ لا بدّ من أن تحظى برضى وقبول المجتمع.
والجمهور في أدبيات الفلاسفة والمفكرين والحكماء لا يحظى بمنزلة وثناء، فهو قرين اللا عقل، إنّه قطيع تحكمه العواطف والأهواء وتحرّكه الصور والخطابات، ومادة لطالما استفادت من غفلتها وجهلها الحكومات عبر التاريخ، لتوظيفها في مشاريعها وبرامجها التي ارتدت على الجمهور ذاته بالويلات والمآسي.
ثمَّ أنَّ الجمهور هناك دائماً من يفكر عنه، ومن ثم فهو عقل غير مستقل، يغيب عنه الوعي اليقظ والاختيار الحر.
والجمهور، في النهاية، يحرك أفراده ويحدد خياراتهم الانتخابية، الدين، والطائفة، والعشيرة، والمنطقة، والقومية، وجميعها معايير لها منزلتها وثقلها في وعي الناخب العراقي.
ولا ننسى أن مزاج الجمهور العراقي صعب ومتقلب على الدوام.
فمجتمعنا (وذلك حال الأغلبية منه) لا يتعاطى مع الأحداث والوقائع على نحو عقلاني نقدي، ومواقفه دائماً ما يغلب عليها الرفض المطلق أو القبول المطلق، فلا رؤية وسط تحكم تفكيره وخياراته، فهو أما مع أو ضد.
ومن هنا يأتي التوتر والتقلب في مواقفه إزاء الشخصيات والأحداث.
والحال هذا ينطبق حتى على نخبنا المثقفة التي تتسم بالتذبذب والازدواجية في مواقفها.
وحول التدخل الخارجي (الدول)، فقد أصاب العملية الديمقراطية بمقتل، إذ ما الجدوى من انتخابات ترسم مخرجاتها وفق مصالح الدول الفاعلة في الشأن الداخلي العراقي، لا وفق مصالحنا؟، واعتقد أنه من البديهيات التي لا تحتاج إلى أدلة وبراهين، من أن التدخل الأجنبي يصب في مصلحة هذه الدول لا مصلحة العراقيين.
فالدول في النهاية ليست جمعيات خيريَّة، وحتى هذه الأخيرة (أقصد الجمعيات الخيريَّة) ليست بريئة، فهي تعمل وفق أجندة وأهداف، فكيف بالدول التي مذ ظهرت على مسرح التاريخ، وإلى يومنا هذا، تعمل وفق مبدأ المصلحة أولاً؟، وهذه حقيقة تتناساها اليوم الكثير من الأحزاب وبعض النخب المثقفة (إعلاميين، كتّاب، صحفيين، أساتذة) التي تدافع بشراسة عن سياسة هذه الدولة أو تلك في العراق، بل وتخوّن كل من يتعرّض لتلك الدول بالإشارة أو النقد.
في حين أن هذه الظاهرة التي سئِمها العراقيون وسخروا منها، لا نجدها على الإطلاق في تلك البلدان التي تدافع عنها وعن مصالحها تلك الأحزاب والنخب!!!.
ختاماً، إذا كانت الأحزاب الفاعلة تتحمّل المسؤولية الكبرى عن خيار الجمهور في العزوف وعدم المشاركة، سيما أن نسب المشاركة بدأت تقل مع كل انتخابات، فلا يعني ذلك أنّ الجمهور بريء ولا يتحمل قسطاً من المسؤولية، فهو مشارك وفاعل في صنع السلطة، بل إنّ الديمقراطية أساساً تقوم على مبدأ أن الحكم بيد الجمهور، فهو من يختار ممثليه في السلطة. لذلك لا مخرج للعراقيين سوى التمسّك بهذه التجربة والتفاعل معها، لأنّه من غيرها فإنَّ سياط الجلادين والطغاة بالانتظار