ديوجين الكلبي.. فلسفة السُخريَّة

منصة 2023/11/19
...

  مؤيد أعاجيبي

السخرية ليست سوى نتيجة أحد المسارين، إما أن تكون ناتجة عن تفكير عابث، لا ينبع من هوية الشخص الساخر، الذي يظهر كنتاج لتأثيرات المجتمع ويكون هدفها الفكاهة.
وسخرية كهذه ليست بذات ديمومة.
وعادة ما تكون طابعا عابرا، وغالباً لا تحمل تبعات أو رسائل عميقة فهي سخرية لأجل السخرية. أما النوع الثاني من السخرية، فيكون تعبيراً عن وجدان الشخص الساخر ورغبته في التعبير عن نقد يتعدى حدود الكوميديا السوداء، ويحمل مغزىً وأثراً أكبر.
تعدُّ السخرية وسيلة فعالة للتعبير عن النقد والتمرد، خاصةً عندما يكون النقد محظوراً أو عندما تكون هناك قيود على التعبير.
إن استخدام السخرية يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن الرفض والانتقاد بشكل غير مباشر، مما يسمح للأفراد بالتعبير عن آرائهم بطريقة مريحة.
عندما تكون البيئة الثقافية أو الاجتماعية تقييدية وتمنع التعبير المباشر عن الآراء، قد تصبح السخرية وسيلة فعالة للتظاهر بالطرافة أو السخرية، للتعبير عن الرأي بطريقة تجنب العقوبات.
تاريخياً، استخدمت السخرية كوسيلة لتحدي السلطة وتعبير عن الرفض في سياقات تاريخية وثقافية مختلفة.
في القرن الرابع قبل الميلاد، تم اعتقال شاب يُدعى ديوجين من مدينة سينوب بتهمة تزوير العملات النقدية.
تم تجريده من جنسيته وأمواله وممتلكاته وإرساله إلى المنفى.
بدلاً من الانكسار، قرر ديوجين بعد ذلك العيش بمفرده، قريباً من الطبيعة، وخالياً من الاعتماد على الأمور المادية والغرور والانصياع للأوامر.
اعتقد أنه من خلال هذه الحياة المتجردة، يمكنه تحقيق تحرره الكامل والفعلي.
ديوجين، فيلسوف يوناني معاصر لافلاطون وأرسطو وتلميذ لسقراط، كان من أعضاء المدرسة الكلبية.
ختار ديوجين نمط حياة فريد ومميز، حيث عاش في برميل وتجوّل في أثينا في ضوء النهار يحمل مصباحاً في يده، يبحث عن "إنسان".
في رؤيته، الرجال الأنبل هم الذين يحتقرون الثروة والمجد والسرور، بينما يسيطرون على الفقر والغموض والألم والموت. فكان فقره وكبرياؤه مصداقًا لفلسفته، حتى أن افلاطون شاهد ديوجين الكلبي يوماً، وهو يغسل الخضراوات، فدنا منه وقال له
بهدوء "لو أنك جاملت ديونيسيوس (أي الحاكم) وتقربت منه، لما اضطررت الآن إلى غسل الخضراوات لتأكلها" فرد عليه ديوجين بقوله:" ولو أنك اعتدت على غسل الخضراوات، لما كنت مضطراً إلى مجاملة ديونيسيوس والتودد إليه".
تعكس فلسفته نهجاً صارماً ضد التقاليد والمفاهيم الاجتماعية المعتادة. إذ يُعتبر رمزاً للتمرد والاستقلال الفكري، وطريقة حياته البسيطة وسخريته من القيم المادية تعبر عن فلسفة الكلبية، حيث يرفض الاعتماد على الرغبات المادية ويؤمن بالحياة البسيطة والمتواضعة.
وديوجين اتخذ من السخرية أداة من أدوات التعبير التي استخدمها في حياته اليومية، فندما قام أفلاطون بتقديم تعريف للإنسان على أنه "حيوان ذو قدمين ليس له ريش" حظي هذا التعريف بالرضا
والقبول. عندما علم ديوجين الكلبي بهذا التعريف، قرر إظهار تحفظه تجاهه بطريقة فكاهية. أحضر ديكاً وقام بنزع ريشه، ثم حضر إلى محاضرة أفلاطون وصاح بصوت عالٍ: "هذا هو الإنسان عند أفلاطون". يعكس هذا السلوك سخرية ديوجين ونقده الواضح لتعريف أفلاطون للإنسان. غالباً ما يستخدم هذا الفيلسوف الفكاهة لإخفاء شخصيته ورؤيته الفلسفية، ويحاول بمهارة أن يخفي خلف سخريته انتقاده للأمور التي لا يتفق معها، بهدف بناء مفهومه الفلسفي الخاص.
إضافة إلى ذلك، ذُكر عن ديوجين أنه كان يتجول في أحد الأزقة في أثينا، حيث اكتشف لافتة معلقة على باب أحد الأوغاد الذين يثيرون انزعاجه، مكتوب عليها: "لا يسمح بدخول الأشرار هنا". لكن ديوجين، بروحه الفكاهية والساخرة، لم يكتفِ بالتجاهل. بل قرر أن يضيف لمسة من الفكاهة والنقد، فكتب تحت اللافتة: "ومن أين يدخل رب المنزل؟" هذا التصرف نوع أخر من ذكاء ديوجين في نقد الوضع وتعبيره عن أفكاره الفلسفية بشكل فكاهي، حيث يستخدم السخرية كأداة لنقد الظواهر والتعبير عن أفكاره بشكل غير تقليدي. وعندما غادر ديوجين أثينا ليقيم في مدينة كورينثوس التي نافست في أهميّتها أثينا والتي ارتبطت بأهمّ حلقاته ومحاوراته.
لقاهُ الإسكندر المقدوني وسأله عن سبب وقوفه أمام المقبرة الملكية، فأجابه بأنه كان يتأمّل عظام الملوك ولم يجد فرقاً بينها وبين عظام العبيد أو عظام كلب ميت.
استغرب الإسكندر رد فعل ديوجين، وأعجب بتصرفه الجريء وكبريائه. قال لأتباعه الذين كانوا يستهزئون به "هذا البرميل مليء بالحكمة، ولو لم أكن الإسكندر الأكبر، لتمنيت أن أكون ديوجين".
بشكل عام، نجح ديوجين في بناء شخصية فريدة لنفسه، حتى أصبحت هذه الشخصية واحدة من الشخصيات المميزة، الذي كان يتخذ من السخرية أداة رئيسة له في التفاعل مع بيئته المحلية.
إذ يتجه نحو السخرية حين يتعرض لمواقف مأساوية.
هذا النوع من السخرية، يضفي جواً من التشويق والمتعة إلى النص، حيث يظهر أن ديوجين لا يخلو من ذكاء وحدة الفهم.  
إن وجود هذا النوع من السخرية يعزز فهم القارئ للرسالة التي يحاول صاحبها نقلها، ويضيف بعمق إلى طابع الفعل أو القول الساخر. فلا وجود لسخرية دون وجود مقصد يريد أن يوصله صاحبه خلف الفعل أو القول الساخر.