علي فائز
حينما يرتكب الاحتلال مجزرة، يكون همه الأول اخفاء معالمها وآثارها، وكل ما يدل عليها؛ حتى يكون الزمن كفيلًا بتجاوزها وربما محوها من السجلات التي تكون شاهدًا على ما حدث.
يتوهم المرء أحيانًا أن جرائم الحروب أصبحت تاريخًا خامدًا ومن غير الممكن اعادتها في عالمٍ يدعي التحضر ويرعى حقوق الإنسان، والمواثيق الدوليّة، لكن الحرب غالبًا ما تتجاوز اللا متوقع وتكاد نكون لا ماضٍ لها؛ فهي تعيد نفسها باستمرار باعثةً بشاعتها من أكفانها وتجعلها تركض باتجاه المستقبل على الدوام، وتحيي الجرائم المروعة في الاذهان.
بقيت مشدوهًا وأنا أتابع أخبار العدوان الاسرائيلي على غزّة، إذ قرأتُ خبرًا مفاده، تعرض المقبرة إلى قصف بالطائرات الاسرائيلية لأكثر من مرة.
مقابر فرديّة وأخرى جماعيّة ابتكرها اهل غزة لان الموت دائما ما يسبقهم ويجعلهم عاجزين حتى عن دفن جثث الشهداء، في تلك الوهلة تذكرت مقطعًا من رواية (كل شي هادئ في الجبهة الغربية) للروائي الالماني (اريك ماريا ريمارك)، الرواية الأكثر شهرة والتي تحولت قبل عامين إلى فيلمٍ بذات العنوان، نال سبعة جوائز أوسكار، يفضح جرائم الحرب العالمية الأولى، يقول هذا المقطع: «لقد اصبحت المقبرة أكوامًا من الحطام، وتناثرت التوابيت والجثث في أرجائها، لقد قتل هؤلاء الموتى مرة ثانية».
قد يختلط الواقع بالمتخيل في رواية ريمارك ويكون هذا النص من نسج خياله، لكن ما حصل في مقابر غزة واقعًا رأينها بعيوننا وتكرر لاكثر من مرة، فهذا الفعل المروع يجعلنا نعيد النظر في أن الموت راحة لعذابات الانسان على الارض، فهو يُقتل في قصف عشوائي يستهدف المنازل والمستشفيات والمدارس، وبعد موته يتعرض إلى قصفٍ آخر قد يعدم تاريخه، فمن لا قبر له تنساه الناس بمرور الزمن، فالقبر لسانًا يروي على الدوام ما حدث، لذلك يعمد الطغاة على تخريب قبور الثوار وتجريفها كما يخبرنا التاريخ.
قتل الناس مرتين في غزّة ويريد الاحتلال قتلَ تاريخهم أيضًا، لتجاوز عاره الأبدي ويسقط كل أقنعته التي يخفي خلفها وجوهًا ملطخة بالدم والعار.