ومن الشهرة ما قتل

آراء 2023/11/20
...

 رعد أطياف

 ثمة أعطاب ذهنية كثيرة، ربما يصعب إحصاؤها، تحول بين فهم المرء لذاته الحقيقية، ومنها الشهرة في مواقع التواصل الاجتماعي. بينما يتذمر، بعض رواد هذه المواقع، مثلما يزعمون، من «سلبية» المثقف، لكنهم لا يتورعون من خلق نسخ مشوهة للمثقف في ما يتعلق بقضية البحث عن «جمهور» يتابع ما ينفثوه من سمومهم النفسية.ليس هذا فحسب، بل أضحى مفهوم «القطيع» وجبتهم العزيزة على قلوبهم، بيد أنهم المصداق الأوضح لهذا المفهوم. ليس لديهم مشكلة في نوعية ذلك «الجمهور» المزعوم ومستوى وعيه، ما يهمهم بالتحديد هو النفخ في هذه الأنا المتورمة، وفي تحفيز تصوراتهم المزيفة عن أنفسهم والمصادقة عليها من قبل ذلك الجمهور الوهمي!، في هذا الفضاء الشعبوي سنخسر نصف أرواحنا نتيجة الأقنعة والتبريرات التي نغلف بها معظم سلوكياتنا المضطربة. 

وقلّما نجد من حصّن نفسه من هذه اللوثة، بل شاهدت، من كنت أعتقد برصانته ووقايته من هذا المرض الآخذ بالاستفحال، كيف يسقط صريعاً لهذه الأوهام المضحكة، وتبين لاحقًا أنه أحد الضحايا الذين ابتلعتهم الأنا في هذا السجن الأزرق.

نحن الكائنات الفانية، نستهلك جزءًا من طاقتنا للظهور بشخصياتنا المستعارة، بيد أن السلوك أمضى من كل قناع. 

هذا لا يعني أن الأمر متاح بهذا اليسر لفهم الآخرين، إذ لا يعتبر فهم النفس البشرية مشاعًا بين عموم الناس، غير أن مواقع التواصل الاجتماعي أبدت لنا مقاربات غنية بدلالاتها حول العدوانية المكبوتة في الطبيعة البشرية، وكيف ستتصرف هذه الأخيرة لو تركت طليقة. 

لقد ألهمتنا ظواهر العالم الرقمي وكائناتها المتخفيّة، التي يحلو لها أن تتقنّع بقناع الحداثة، وكشفت لنا الهوّة الفاصلة بين الهذيانات اللغوية والسلوك العملي.

تجربة مواقع التواصل الاجتماعي تجربة غنية وعميقة للغاية، تسلّط الضوء على أكبر تحدٍ يواجه البشر حين يتصرفون من دون إكراهات قانونية، وبلا عقد اجتماعي ينظم إيقاعهم، ومن ثم يحد من سلوكياتهم العدوانية.

أليس «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» بحسب توماس هوبس؟

نعم هو كذلك سواء في الواقع الافتراضي أو الفعلي! هذه المعتقلات الزرقاء هي الفوهة العميقة التي تتسرب منها كل المكبوتات بلا حاجب أو بوّاب.

لذا قد يبدو الشخص الفضائحي والعدواني في هذا العالم الرقمي هو الشخص الحقيقي على الأرجح، الشخص الذي عثر على جنّته الموعودة ليقيء فيها كل أشكال الكبت وكل أشكال القيود والإكراهات التي أجبره عليها المجتمع، ومن ثمّ تظهر أمنياته الحقيقية التي لم يستطع تحقيقها في الواقع الفعلي.

لا يوجد للفضائحيين والمتاجرين بسمعة الناس إلا هذا التفسير: إنها شخصياتهم الحقيقية التي تنكشف بجلاء في هذه المواقع. 

إنَّ الطاقة التي نستخدمها من أجل الرياء، هذه المزحة البغيضة، هي نفسها يمكن أن نستخدمها لتغيير الذات. 

كم يغرينا ذلك الهوس الغريب المتمثل في إسقاط تصورات مزيفة على ذواتنا، لدرجة شعورنا بالعدوانية الشديدة ضد كل من تسول له نفسه للكشف عن هذه المهزلة البشريّة.

لذا فمن أجل ذلك فليتنافس المحللون ليكشفوا لنا، ربما، إمكانات جديدة لفهم النفس البشريّة، ذلك أن العالم الأزرق هو الأفق الجديد لخوض تلك المعركة، الأفق الذي يمدنا بمادة تحليليّة عن الكيفية التي تتحرّك فيها قوى النفس البشرية في هذا السجن الأزرق.