أحمد الشطري
تمثل الرواية عالماً واسعاً قابلاً لحمل الأفكار والصراعات المختلفة، وغالباً ما تكون منفذاً للتعبيرعن قيم فكريّة أو اجتماعية أو أيديولوجيّة معينة، تتنافذ من خلال الحدث السردي بمختلف تشكلاته، لتشكل ثيمة لخطاب مستبطن يهدف إلى خلق نوع من الاستفزاز للمترسخ في ذات القارئ بغية خلق فعل تشكيكي، أو تقويضي للاعتقاد المخالف، أو فعل تعزيزي لما يتآلف مع وجهته.
واحدة من السمات المميزة للروايات الأيديولوجية هي نزوعها إلى خلق حالة من التفكير والنقاش في، وحول، القضايا المجتمعيّة الهامة، وغالباً ما تتناول هذه الروايات موضوعات مثل الصراع الطبقي وعدم المساواة بين الجنسين والاستعمار والقضايا السياسية والدين والانحيازات الأثنية والقومية، وقد توفر روايات الأيديولوجيا للقراء فهما أعمق للتعقيدات والفروق الدقيقة في هذه القضايا، من خلال خلق شخصيات ذات قدرة على كسب التعاطف سواء بما تواجهه من ظروف صراعاتها المختلفة، أم بما تعكسه من صورة لتفاعلاتها النفسيّة مع الأحداث التي تواجهها.
ولعل من أهم التأثيرات الأساسية للروايات الأيديولوجية هو قدرتها على إثارة التحليل النقدي. وغالبًا ما تتحدى هذه الروايات الأيديولوجيات السائدة في المجتمع، وتشجع القراء على التشكيك في الوضع الراهن والنظر في وجهات نظر بديلة. من خلال تقديم شخصيات معقدة وسرديات معقدة، وقد تجبر مثل هذه الروايات القراء على مواجهة معتقداتهم وتحيزاتهم، مما يخلق فهمًا أعمق للعالم من حولهم.
وغالبا ما تتبنى مثل هذه الروايات مواضيعا وأفكارا إشكالية ترتكز على فاعلية السرد المحفز على الإثارة والجذب، وقد تشجع المتلقي على الانخراط في التحليل النقدي، أو تحث على التفكير في القضايا الاجتماعية والسياسيّة والثقافيّة والدينية المعروضة في الرواية، وقد تدفع إلى خلق عوامل تدفع وتشجع على التشكيك في الأيديولوجيات الأساسية التي يتشكل منها مجتمع تلك الرواية، والذي هو غالبا ما يكون انعكاسا ممهوها، أو ربما جليا للواقع الذي يحيط بالمتلقي، وربما يساهم هذا التحليل النقدي إلى خلق نوع من الوعي بديناميكيات القوة المؤثرة وإلهام القارئ للعمل على إيجاد أو تبني نوعا من التغيير الفكري أو العملي.
وفي كثير من الأحيان نجد أن ثمة طروحات أيديولوجية تتسلل إلى البنية السردية للرواية دون أن تخضع لإرادة قصدية من قبل الروائي، وقد تتعارض مع أو لا تعبر بشكل دقيق عن وجهة نظر المرجعية الأيديولوجية التي يتبناها، وفي الغالب لا يحدث مثل هذا الأمر من قبل السارد المحترف القادر على التحكم بأدواته التقنية والمتمكن من إدارة الحدث الروائي، أو ربما يحدث مثل هذا الأمر في الصور القابلة للتأويل على أكثر من معنى، وهو ما يساهم في تحييد إرادة الروائي وتحريف مقصده الأيديولوجي وتوجيهه نحو الوجهة التي يبتغيها المتلقي سواء كان بوصفه (قارئا عاديا) - إن صح الوصف- أم (قارئا ناقدا)، ولعل الثاني هو الأكثر تأثيرا بوصفه فاعلا مؤثرا في تحليل خطاب الروائي بشكل حيادي كما هو مفترض، أو تضمين خطابه الذاتي في مضامين الخطاب الروائي المؤول وتوجيهه انحيازيا نحو الوجهة التي يرتئيها.
وقد يرى البعض ومن بينهم روائيون أن الطروحات الأيديولوجية في الرواية هو عمل سلبي، فيحاول أولئك الروائيون نفيه عن رواياتهم أو التنصل منه، والواقع إنّ أغلب الروايات الكبرى إن صحت التسمية إن لم تكن كلها محملة بالطروحات الأيديولوجية بمختلف أشكالها واتجاهاتها.
وقد حفلت الرواية العربية في كل أدوارها بالطروحات الأيديولوجية سواء كانت تلك الطروحات تشكل سمة عامة للخطاب، أم جزءا من جزئيات ذلك الخطاب، كما نجده لدى نجيب محفوظ في رواية ميرامار أو الثلاثية، ولدى عبد الرحمن منيف في شرق المتوسط، والطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال، ويوسف زيدان في عزازيل، وواسيني الأعرج في سوناتا لأشباح القدس، وروايات نوال السعداوي وغير ذلك من الأسماء والروايات، وما ذكرناه من نماذج روائية لا يعني أن المنتج الروائي للروائيين المذكورين أو غيرهم يخلو من الطروحات الأيديولوجية بل هي مجرد أمثلة لما ذكرناه.
أما الرواية العراقيّة فهناك أيضا الكثير من الأسماء والنماذج ولعلنا نجد تمثلات ذلك عند غائب طعمه فرمان وفؤاد التكرلي وعبد الخالق الركابي وأحمد خلف وعبدالرحمن مجيد الربيعي وغيرهم، وكذلك مما يصعب حصره من الروائيين العراقيين المعاصرين بالإضافة إلى العديد من الروايات السيرية التي وضفت الأيديولوجي في متنها السردي بغض النظر عن رصانتها التقنية.
وتشكل البنية السردية ووجهة النظر المضمنة أهمية كبيرة في الروايات العربية المؤدلجة، إذ يجرب الكتّاب تقنيات سردية مختلفة، مثل وجهات النظر المتعددة، والسرد القصصي غير الخطي، والسرد المجزأ؛ لتعكس تعقيدات التاريخ والهوية العربيّة. وتشكل هذه الاختيارات السردية تحديا للتقنيات التقليدية لسرد القصص وتقدم طرقًا بديلة لفهم وعرض التجربة الفكريّة والاجتماعية العربية.
كما تعتبر اللغة والبلاغة أداتين فاعلتين في الروايات الأيديولوجية العربية، من خلال الاستخدام المتقن والمبدع لخصائص اللغة العربية، كما يعمد الروائيون إلى دمج اللهجات والأمثال والعبارات الشعرية؛ لخلق نوع من الثراء الأسلوبي والثقافي في المتن السردي، وقد تساهم هذه التقنيات في جعل خطاباتهم أكثر اقناعا وجذبا وتأثيرا، كما يعمد البعض منهم إلى استخدام أسلوب السخرية في مضامين خطابه الانتقادي للأيديولوجيات السائدة التي تتعارض مع قناعاته ومتبنياته الفكرية والفلسفية وهو واحد من الأساليب المهمة التي تتسم بقوة وفاعلية التأثير.
ومما لاشك فيه أنّ المتغيرات الحضارية بكل أشكالها، والتطور التقني، والانفتاح التواصلي مع العالم، والذي ساهم في كسر الحواجز وتهشيم جدران المحددات التفاعلية مع الآخر، سواء على الصعيد الفكري، أم الفلسفي، أم السياسي، أم الثقافي، أم الاجتماعي، قد كان له تأثير فاعل في تنامي تحديات الخطاب الروائي الأيديولوجي، واتساع أبعاده، وتعدد زوايا نظره، بغض النظر عن سلبية ذلك التأثير، أم إيجابيته.