شعلة النار: شحنة الموقد الأسطوري

ثقافة 2023/11/21
...

  ناجح المعموري

انتقال أهم خصائص أرتميس إلى الإلهة الرومانية هستيا، التي كانت للعائلة وحارسة للمدينة، وهي تجسيد للنار الباطنية.
 حاول الزواج منها ابولو وبوسيدون، لكنها لجأت للإله يوس ووهبها الحماية، فحافظت على عذريتها إلى الأبد بحسب فراس السواح.
ولهذا التكرر وظيفة تكريس لهذا المعتقد الذي تمركزت حوله الديانة المسيحية، من خلال نظام الرهبنة الذكرية والأنثوية، وبهذا تكون ثقافة أرتميس قد صعدت لليسوعية عبر استمرار العذرية وإبقاء الجسد بعيداً عن المتع اللذية، كذلك التماثل واضح في بنية الولادة تحت النخلة لكل من ابولو ويسوع.
ولابد من الإشارة إلى أن العذرية والابتعاد عن الرجال صاغت نسقاً ثقافيا ودينياً في بلاد اليونان والرومان ،عزوف ديمتر عن الرجال وبقاؤها على الدوام بدون زواج، شأنها في ذلك شأن أرتميس إنما يعكس الصورة القديمة للام.
تعني حماية أرتميس ضمناً حماية الشعلة النارية لها، لأن النار مقترنة بالمرأة منذ عتبات التاريخ وصارت دالة على نظام المرأة الثقافي وهي ـ النارـ مرتبطة مع وظائف الأنثى اليومية، وتعمقت أكثر عندما صارت وظيفة دينية مقداسة واهتمت بها الديانات، حتى تحولت مركزاً عبادياً في الديانة الزرادشتية «خشي إنسان العصر الحجري انطفاء النار، لأنها قبس من الأم الكبرى وبركة».
وكان انطفاؤها انقطاعًا إلى ما بينها وبينه، وانفصال للعهد الذي قطعته له بالحفاظ على حياته ورعاية معاشه بهذا كان للقبيل البدائي شعلته الدائمة التي ترعاها النساء حولها يجتمع شملهم.
فالنار كالأنثى الأم، مركز جذاب وعامل تأليف وعندما توسع القبيل، صار لكل بيت شعلته الدائمة التي لا تنطفئ، رمز لوحدة العائلة واجتماعها حول الأم وحول موقد البيت.
ورأي أن «أرتميس المسؤولة عن الغابات وما تنتجه بكل تنوعاته» يفضي بنا إلى العلاقة القائمة بين أرتميس والأشجار، والتي هي من تمظهرات موميتها أن هذه العلاقة ليست ثانوية، وإنما جوهر نظام ثقافي للإلهة أرتميس، لأن الشجرة إحدى علامات الأمومة الكبرى على الحياة واستمرارها.
وقد تناولت الأساطير الشرقية الكثير عن الشجرة، وبسببها وقع الإنسان في الخطيئة.
وـ الشجرة ـ حلم الفرد والجماعة، تشوق الإنسان لها حتى صارت معبودته التي انعكست أهميتها في الفنون الشرقية والكتب المقدسة.
تميزت الشعوب بوجود شجرة أو أشجار خاصة بها، مثل شجرة الحياة لدى السومريين والفينيقيين، وشجرة الجنة، أو الفردوس التوراتي، وأشجار الإلهة عشتار المعروفة في بساتينها وحدائقها، وأيضا بستان الإله أنكي.
لا بد من وجود شجرة أو أشجار في الديانات لحظة المخاض « فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة».
أنها شجرة الميلاد التي توضع في كل بيت كما قال فراس السواح وتزيّن بالشموع والأضواء، التي ترمز إلى الأجرام السماوية المنيرة، لأن شجرة الحياة هي في الوقت نفسه شجرة الكون وسيدة السماوات المعتمة التي تتعلق الأجرام المنيرة بصدرها.
وفي الشرق أساطير كثيرة خاصة بالأشجار وثنائية الإلهة الشابة والخصوبة، ومن ذلك ادونيس وسيبيل وعشتار، ولهذه الأهمية كانت الشجرة وظلت حتى هذه اللحظة معبودة الإنسان، لأنها روح الغاب.
لم تكن عبادة الإنسان موجهة نحو الشجرة ذاتها، بل نحو الروح الكامنة فيها، كما قال السواح، بدأت الإلهة المؤنثة تخرج من الشجرة في شكلها الإنساني الجميل، فحفرت على الجذع وصارت تعبد شجرة شكلاً إنسانيا مصوراً، ثم غادرت محراب الغابة الصغيرة، وحلت في التماثيل الرخامية التي تتصدر معابد المدن الكبرى.
وفي أحد الأشكال نرى عشتار جالسة وعلى رأسها تاج على هيئة قرنين، ومن خلفها تنتصب شجرة وفي حضنها تموز الوليد الذي يبدو منطلقاً من حجرها إلى الأمام، وكأنه قد انبثق من جذع الشجرة ومن رحم الأم الكبرى في آن معاً.
 وتؤيد الأسطورة السورية هذا المعنى الكافي في الصورة عندما تقول إن «الاله ادونيس قد ولد من شجرة لمر، التي حملته في جذعها عشر اشهر، قبل أن تنبثق قشورها وتسمح للإله الوليد بالخروج».
وقد قامت الأسطورة الاغريقية بزخرفة هذه الأسطورة القديمة على طريقتها الخاصة، فقالت إن «شجرة نمى في داخلها الاله».
هذه الشجرة هي أم الإ له، وهي عشتار نفسها التي عبدها الإنسان القديم في هيئة الشجرة الممثلة لروح الغاب.
على تمظهرات غفيرة جداً، للمرأة فيها دور مركزي، لأن الخصوبة لا تكون إلا ما يريدها الإنسان، إذا لم تكن المرأة وسيطاً، بسبب علاقتها المبكرة مع الأرض أولا، وللمعنى الرمزي الراسخ عنها.
نتجت البنى الذهبية الأسطورية كثيراً من الأساطير المرتبطة بالمرأة والخصوبة وإدامة الحياة ومقاومة الجفاف والعطل.
«سيتا أيتها السمحاء
نحن نمجدك
لكي تأتينا بوفرة وفيرة من الثمار».
هذا نص من الملحمة الهندية «الراما يانا» يكشف العلاقة المباشرة بين الأرض والمرأة، إلا ما هو حاصل في بلدان الشرق القديم.
وفيه مرجعيات واضحة لطقوس وعقائد أسطورية أوجدت مشتركاً عضوياً بين الأنثى/ المرأة والأرض المحروثة.
والحرث اتصال بالأرض حتى العمق، لتكون جاهزة للبذار «قد ظهرت بعد ثورة العصر الحجري الحديث، التي غيّرت من بين ما غيرت دور المرأة ماهيات مشتركة: تلدن، وتطعمن، وتنشئن»، ولذلك ليس غريباً أن يفهم حمل المرأة في طقوس الشعوب الزراعية بصفته رمزاً لبذرة الحياة الكامنة، ولادتها ونموها.
وشبه المرأة بالأرض الزراعية كل من الهنود والإغريق والرومان وكثير من الشعوب الأخرى (كان العراق أول البلدان ومعه سوريا، فلسطين، مصر) وظن كثيرٌ من القبائل الإفريقية إن بإمكان «المرأة أن تمارس تأثيراً سرياً على نمو النباتات»، ولذلك كان عقم المرأة خطراً على الحقول.
إن المرأة الحامل التي تبذر الحقل تضمن بذلك جمع محصول جيد.
وعندما كان الفلاحون الهنود يريدون استنزال المطر، كانوا يرشوا الماء على نساء عاريات، أو كانت النساء تحرثن الحقل ليلاً وهن عاريات، أو كن يرقصن أمام صورة اله المطر، بل كانوا يقدمون إليه إحدى الفتيات زوجة، وكان المغزى الميثولوجي لهذه الطقوس كلها يكمن في الاتي: عندما يرى اله المطر تلك النساء، يُنزل المطر فتخصب الأرض وتطرح موسماً
وفيراً .
تكرست فكرة الخصوبة بين الأرض والمرأة وحدة سردية منذ لحظة ابتكار المرأة للزراعة، عندما غادرت لأول مرة الكهوف والمغارة واهتدت للزراعة، ونشأت لحظة اقتران بين الاثنتين، وتحولت شيئاً فشيئاً محوراً اساسيا في العديد من الطقوس الزراعية.
وحسب الرؤى السحرية القديمة أن الخصوبة تقوى الزواج الفعلي أو الرمزي الذي غالباً ما يحققه الرجال والنساء في الحقول مقتنعين بأقنعة ارواح النباتات، ومن جهة اخرى كانت خصوبة الأرض مدعوة لمساعدة خصوبة الإنسان.
وقد أدت هذه العملية الثنائية المتبادلة بين الطرفين إلى مضاعفة قوى الانتاج لدى الطبيعة والإنسان مضاعفة سحرية ولدت مع الزمن حضور الرمزية النباتية في الطقوس العائلية كلها تقريباً.
ولا نشك أبداً في أرتميس بنظامها الثقافي والديني، المتعدد والمتنوع، قد لعبت دوراً بارزاً ومهيمناً في الثقافة الاغريقية، ولها حضور في الممارسات والأفكار ومجموع السنن والعقائد والتقاليد، وكلية العتم، ليس في لحظة حضورها آنذاك، إنما في مراحل حضورها الثقافي الروماني والليبي، إضافة الى الإغريقي وتتكشف شخصية هذه الإلهة، على نويات واضحة غير معتم عليها وللعديد من الإلهات المؤنثة من الشرق.
كانت تبدّيات وظائف الالهة أرتميس مع حورياتها اللاتي يمنحن لأفعال الإلهة صفة جمعية، كذلك يعلن مؤازرة، واستمالة أبدية، وهن بذلك يؤكدن صواب الاختيار الإلهي لزيوس الذي منحنهن لابنته.
ويفضي هذا إلى أن الإلهة غير قادرة على قبول الحياة منفردةـ ربما بسبب بتوليتها ـ وإنما أكدت بطلبها أن البنية الذهنية في بلاد الإغريق قد اعتنت بالدور الفرداني وسط الجماعة، ولا يمكن للكائن أن يكون إلا ما هو مطلوب منه.
لو لم تكن العذرية ذات دور حيوي، إلى ما ظلت إرثاً في الديانات لتؤكد الأهمية الخاصة للبتولية الصاعدة للديانة المسيحية.
أن نظام عذرية أرتميس الكلي، الصارم والص آدم، العنف حاز اكتماله من أنظمة سادت فيه عدد من حضارات الشرق، ابتداء من سومر وأكد وسوريا وآسيا الصغرى، استجمعت أرتميس كل ما أرادته من اللاتي كن قبلاً وصاغت نظامها الديني المرتحل نحو المسيحية والمرحب به مع انفتاحه أكثر ليتسع على الجنوسة، الأنثى والذكر، التعطل الكامل لوظيفة الجسد بثنائية.
وجدت المسيحية بنظام التبتل والبتولية حلاً ثقافياً مقنعاً للخطيئة الأولى، وفي رهبتها اعترافٌ بالذي حصل بفجر التاريخ مع اعتذار من خطئيه الأم الأولى حيث «بداية انزلاق آدم بفعل الخطيئة المعتبرة حوائية»، أي أنثوية الخطيئة القاتلة.
اتسعت مساحتها وتعمقت كثيراً حتى في الحضارة الرومانية، التي انحرفت بالكنية نحو ديانا واختارها كبير الإلهة ابنة له، وانتقال أرتميس إلى ليبيا مع الغزو الروماني، أفضاء واضح عن أهميتها وتميزها ثقافياً ودينياً وصارت إلهة مدينة قورينا.