كيف ننظر لمدّاحين تجاوزوا بيئاتهم لمغازلة دول أخرى؟
البصرة: صفاء ذياب
على الرغم من الأغراض العديدة في الشعر العربي القديم، التي انقسمت للغزل والمديح والرثاء والفخر وغيرها الكثير، غير أنَّ هذه الأغراض تتباين في صعود بعضها على حساب الآخر بحسب الزمان والمكان الذي تُقال فيه.
وربّما كان لغرض المديح الشأن الأكبر في تاريخ الشعر العربي، وبعضهم عدّ الغزل والفخر؛ بل وحتّى الرثاء، من ضمن هذا الغرض، لأنها تدخل في تفاصيله بشكلٍ أو بآخر، غير أنَّ هذا الغرض، حتَّى لو كانت ملامحه واضحة للدارسين، فهو متغيّر مع تغيّر الزمن.
فمدائح المتنبي- على سبيل المثال- لها حيثياتها، حتى لو كانت تكسّباً، لأنَّه غرض رئيس في زمنه، غير أنَّ مدائح العصر الحديث أخذت بُعداً آخر، فقد مزجت بين المديح والفخر وحتى الغزل، فشعراء ما سُمّي بـ(قادسية صدام) و(أم المعارك) حاولوا أن يدمجوا الأغراض الأدبية كلّها في قصائد تكسّبية، في الوقت الذي يرى فيه الكثير أنَّ قصائد مثل هذه في العصر الحديث تعدُّ انتقاصاً من الشعر ومن الإنسان في الوقت ذاته، فأن يبيع الكاتب والفنّان نفسه من أجل الحصول على العطايا، بعيداً عن الفن، وعن قيم الإنسان، انتقاص من الإنسانية نفسها، لاسيّما أنَّ من يُمْدَح، يُذْبَح على يديه آلاف المواطنين بشكل يومي، إن كان في حرب أو سلم.
وإذا كنَّا- حالياً- ننظر لهذه القصائد والنصوص المسرحية والأفلام والأغاني والكتابات الصحفية على أنها استجداء وامتهان للفن نفسه، إذا كان من يمدح يتحدّث عمّن في بلده، فما الذي يمكن قوله عمّن يمدح رؤساء وملوكا لبلدان أخرى، ربّما لا يعرف أنّهم أنفسهم يقتلون شعوبهم، أو حتَّى يمنعونها من الكلام... وهو ما رأيناه في مدائح الجواهري للملك الحسين بن طلال وحافظ الأسد وغيرهما الكثير، الأمر نفسه نجده لدى كريم العراقي وعبد الرزاق عبد الواحد حين مدحا أمراء الإمارات، وهناك من تغنّى ببلدان أخرى في سبيل الوصول إلى مكاسب ليست أكثر من مادية.
فإذا كنّا نسمّي نصوص الحرب ومديح القائد نصوصاً تعبوية، فماذا نسمي مدّاحي سلاطين الدول الأخرى؟ وكيف نقرأ هذه النصوص إبداعياً؟.
ذاكرة قائمة
يرى الدكتور طه جزاع أنّه ليس على الشعراء حرج، ولا لوم ولا عتب على المغنين والشعراء العاميين وكتّاب الأغاني الشعبيين، في كلِّ ما أنجزوه من أعمال “تعبوية” تطلّبتها ضرورات الحقبة التاريخية التي عاشوها قديماً وحديثاً، ولا ينبغي أن يُحاكم الحاضر بمنظار الماضي، ولا أن تُطَبَّق معايير اليوم على قضايا الأمس، فلكلِّ زمانٍ أحكامه ومقاييسه ومفاهيمه، ولكلِّ زمان دولة ورجال كما قالت العرب، ولكلِّ بلاطٍ وعرش وكرسي، شاعر ومغنٍّ وعازفٍ ونديم. لكن لا بدَّ من التفريق بين أمرين، الأوّل يخصُّ النتاجات الشعرية والفنّية والأدبية من روايات ومسرحيات وقصص قصيرة استوجبتها الأحداث التي مرّت بها البلدان من حروب وانقلابات ونكبات وتحدّيات، يختلط فيها “التعبوي” بالمدح الموجّه لرأس الدولة ملكاً كان أو رئيساً أو سلطاناً أو رئيس قبيلة، ومن ذلك يأتيك إبداع كثير قد لا يقصده الشاعر والكاتب والمغنّي نفسه، لكنَّ نتاجه أبى إلا أن يكون للإبداع.
والثاني يخصُّ القصائد والأغاني وما شاكلها التي تكتب لغرض المدح وحده، وهي كذلك على نوعين، الأول نابع عن قناعة شخصية ورغبة صادقة نابعة من محبّة وإعجاب وتقدير لشخص الممدوح، والثاني طلباً لحاجة أو هدية أو مكرمة أو مكسب مادي، وذلك شائع جدَّاً في أدبنا العربي على امتداد تاريخنا الشعري، ومن النوعين كليهما أيضاً يأتيك إبداع كثير.
إنَّ من الخطل أن نشطب على نتاجات أدبية وفنّية لحقبة زمنية كاملة من التاريخ، تحت ذريعة أنَّها “تعبوية”، أو أنَّها لمدح فلان أو علّان من الملوك والزعماء والقادة والرؤساء، فمعيار الإبداع ينبغي أن يقوم على قواعد ذوقية وجمالية ولغوية لا يختصم فيها اثنان، ولا ينتطّح فيها عنزان، بغضِّ النظر عن الأسباب التي أدّت بالمبدع شاعراً كان أم أديباً أم فناناً، إلى هذا الموقف أو ذاك في مدائحه، وفي نتاجه “التعبوي” الذي هو في النتيجة جزءٌ لا يتجزّأ من ذاكرة شعب، وتاريخ وطن.
تفرّد نادر
ويشير الدكتور محمد عبد الحسين هويدي إلى أنَّ ظاهرة التكسّب بالشعر قديمة مرتبطة بنشأة الشعر العربي وتطوّره، كلون من ألوان العلاقة الملتبسة بين الشعر والسلطة، وهذه العلاقة الإشكالية تجعل الشاعر إمَّا بوقاً للسلطة أو معارضاً معادياً لها، وقد يكون الاثنان معاً كما فعل محسن الكاظمي عندما هجا الإنكليز في مصر ومدحهم في الحجاز، أو الرصافي عندما ذمَّ الأمير فيصل وسرعان ما مدحه بعد أن تصالح مع عبد الرحمن النقيب، لأنَّه كان من حاشية الأخير، لكنَّ هذا النمط الكلاسيكي من العلاقة انكسر في العصر الحديث بظهور النزعة الإنسانية التي تنتصر للإنسان وقضاياه، ولذلك عُدَّ الخروج عن الخط الإنساني المبدئي سواء أكان لأغراض إنسانية أم أيديولوجية سبَّةً في تأريخ الشاعر، وموقفاً محرجاً لأنصاره ومريديه، فهذه الشطحات يصعب تبريرها منطقياً، بل ربَّما تسيء إلى الموقف المتفق عليه ضمناً بين الشاعر وجمهوره، لأنَّ هذه القصائد مدفوعة الأجر وربَّما تكون المجاملة ورد الإحسان غايتها المباشرة.
وهذه المدائح تكشف عن جانبين من العلاقة بين الحاكم والشاعر، فالحاكم تلمّع صورته وتسوق للجمهور بوسيلة إعلامية تقليدية هي الشاعر، الذي يمثّل الجانب الآخر من المعادلة والطرف الأضعف فيها، فتُستغل ظروفه وتخضع شخصيّته ونصوصه، وهنا تحدث المفارقة فيتحوّل الموقف الإنساني الأبدي للشاعر في خدمة الموقف العابر الوقتي لسلطة الحاكم، وربَّما كان مظفّر النواب الاستثناء المتفرّد الوحيد الذي ظلَّ وفيّاً لمبدئه حتَّى النهاية، ومن أجله حدثت له جفوة مع الجواهري الذي هادن في بعض محطّات حياته طلباً للسلامة ورداً للمجاملة، الأمر الذي رفضه النوّاب رفضاً مطلقاً، وفي هذا المقام يمكن استعراض نماذج كثيرة لا يسعنا إلَّا الاكتفاء بالإشارة العامة لها.
خسائر الفن
ويؤكد الشاعر علي نوير أنَّ ظاهرة جعل الفن والأدب في خدمة الحاكم ونظامه وحروبه ليست جديدة، لا في واقعنا العراقي ولا في واقع وتاريخ الشعوب الأخرى، وهي تصاحب عادةً الأنظمة الشمولية، ومنها نظام صدّام وأنظمة أخرى في المنطقة العربية، ورأينا كيف وظّف عدد من الشعراء والكتّاب والفنانين العديد من نصوصهم لهذا الرئيس وذلك الملك أو الأمير، وذِكر الجواهري هنا كمثال جاء بسبب شهرته الكبيرة حسب، وإلّا فهناك آخرون كثر، على غراره، لا يتّسع المجال هنا لذكرهم جميعاً.
وأحسب أنّ أسباب هذه الظاهرة لا تبتعد كثيراً عن دواعٍ بعينها، سواء في نسختها العراقية أو العربية، إذ تتمثّل في رغبة المادح في التقرّب إلى الممدوح طمعاً في مكرمةِ أو جاهٍ أو حماية، ولا فرق إن كان الممدوح جديراً بهذا أو لا، أو أنَّ هذا اللون من الخداع متوائم مع رسالة الفن أم غير متوائم، وهو في الأحوال كلّها له أهدافه العرضية والمعلومة والمحدودة كذلك. وبقدر تعلّق الأمر بالممدوح، عراقياً أو عربياً، فالأمر كما أرى سيّان.. وإذا كان الدافع في النسخة العراقية يخالطه شيء من الرهبة والخوف أو محاولة اتّقاء شرّ الممدوح (وقد لا ينطبق هذا على كلّ مَن مدح)، فلا أرى في النسخة العربية (أي أن يكون المادح عراقياً والممدوح عربياً، أو بالعكس) إلّا الجانب التكسّبي، أو لطلب الحماية، بحسب الذي ألفناه عند عدد من الشعراء العرب من قبل ومن بعد. وفي الأحوال كلّها الخاسر الوحيد هنا هو الفنّ.
مكاسب كبرى
وتبيّن الشاعرة غرام الربيعي قائلة؛ إنَّ واحدة من رسائل ومهام الأديب الشاعر أن يكون قريباً من قضايا مجتمعه ومرايا للأحداث التي تحيط به، منطلقاً من وطنيّته وواجبه الوطني والإنساني، ولاسيّما في الحروب والمعارك لشحذ الهمم وخلق روح الحماسة لدى القائد لتلك الظروف، وهذا من ضمن أغراض الشعر المتعارف عليها في تاريخ الشعر..
لذا اعتمد كثير من الدارسين على الشعر لتأرخة الأحداث ومعرفة ما جرى من تفاصيل وتحليل المواقف ووصف الأمكنة إلى غيرها من أمور، وهذا دور الأدب الأخلاقي والوطني.
أمّا المديح فالأمر مختلف تماماً، فإمَّا ينظم من أجل علاقات شخصية ضيّقة تحاول تعظيم الملك أو القائد للحصول على غنائم وعطايا، وإمَّا من أجل التكسب، وأحياناً بأمر من السلطة للتحضير لمناسبة مخطّط لها. وهنا يخرج الشعر من مصداقيته الأخلاقية إلى نظم تحت الخوف أو التبعيّة والذلّة أو التزلّف للسلطة، فيعتمد على التضخيم والحمد المبالغ للتخلّص من تبعات الأمر...
وربَّما يجد الشاعر قناعته الشخصية التي قد لا تتفق مع الجمع في أنَّ الممدوح يستحقُّ هذا النص لبيان أهمّيته.. فالتسميات مختلفة وواردة وما عادت منطقاً متفقاً عليه بقدر رؤى متفقٍ عليها، أو حتّى مختلف عليها، لكنني شخصياً أجد أنَّ أيَّ نص مهما امتلك من صفات النظم الجيّد من حيث قواعده وأحكامه يفتقد لروح الشعر ونزاهة الفكرة والهدف.
ولا يخفى على أحد أنَّ الكثير من الشعراء اعتاشوا على شعر المديح الذي يعظّم شخصية المسؤول ملكاً أو حاكماً من خلال الغلو في مدحه. ولا تختلف أغراض الشعر هنا عمَّن يكتب لدول أخرى أو حكّامها لكسب رضاها والحصول على المكاسب الكبرى منها، لاسيّما المكوث فيها أو جني مصالح معيّنة من خلال التقرّب بالشعر والمديح.
تجارب حيّة
ويسرد الشاعر والكاتب جمال علي الحلّاق حكاية يقول فيها إنّه مرّة، قرب نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، في (كازينو النسيم) في شارع أبي نواس، دخلت في حوار مع شاعر عمودي كان مجايلاً للسيّاب، ويكتب- كلّ أسبوع- قصيدة في مدح صدّام حسين ينشرها في صحيفة القادسية، قلت له: “كيف تقول فيه ما ليس فيه؟”.
قال: “أريده أن ينتبه لأهميّة ما ليس فيه”.
ويبرّر أحد أصدقائنا الشعراء في التسعينيات كتابته بالعوز والحاجة إلى المكافأة الماديّة. وقال لي آخر بعد أن أخبرته بأنّني عملتُ حدّاداً في بغداد: “لا أعرف حرفة غير الكتابة”.
وبصلافة قال آخر: “الكتابة نوعان، إبداعيّة ومعيشيّة، ونحن لا نحاسب على ما كان بدافع المعيشة”.
أحاول هنا أن أنجو من ميلي الشخصي قدر ما أستطيع، وأقول إنَّ النصوص التي تُكتب نتاج تجربة حقيقيّة- وفي أيّ مجال- لا تخلو من قيمة إبداعيّة (تجربة المتنبّي مع سيف الدولة نموذجاً)، لكنّني لا أستطيع قراءة ما كان تخاذلاً واستجداءً، وهذا الرأي لا ينحسر على الشعر فقط، بل على مجالات الإبداع كلّها.