الكسندر دوماس وكلاسيكيّات الأدب القديم

ثقافة 2023/11/22
...







بول ت. م. جاكسون 


ترجمة وإعداد: مي إسماعيل



لا يحتاج “الكسندر دوماس-Alexandre Dumas “ لكثير من التعريف؛ فهو المؤلف الذي قدم شخصيات مثل “بورثوس” و”آثوس” و”آراميس”؛ الفرسان الثلاثة ذوي مقولة: “الفرد للجميع والجميع للفرد”، و”دارتانيان”، و”أدموند دانتس” كونت مونتي كريستو، و”الرجل في القناع الحديدي” وغيرها.. وبعد نحو قرن ونصف على وفاته ما زالت أعماله تحظى بشعبية تتخطى حدود بلاده، وصلت إلى الشاشات والمسارح بمئات التنويعات من وسائل الاقتباس، وصولا إلى عروض الباليه الروسي. أطلق الفرنسيون اسمه على محطات المترو وحولوا منازله إلى متاحف، ووضعوا رفاته في مقبرة البانثيون، أسوة بــ”زولا” و”فيكتور هوغو”. وبرغم ذلك؛ وحتى في فرنسا وخلال حياته؛ لم يحظ دوماس مطلقا بالتقدير الكامل الذي يستحقه قط.. إذ لم يكن أبدا مجرد كاتب قصص نابليونية متهورة ذات طبيعة مغامرة عالية، وروايات كانت تُنشر بالتسلسل في الصحف. وهناك جانبٌ آخر لأعماله يُعنى بمنظور الأدب الكلاسيكي القديم..

سحر الأساطير

 كان والده الجنرال “دوماس” قارئا متعطشا لنتاجات بلوتارخ (الفيلسوف والمؤرخ اليوناني) وقيصر؛ لكنه توفي قبل أن يبلغ ابنه سن الرابعة. وبرغم ذلك كان دوماس مسحورا بالأساطير منذ طفولته؛ كما يروي في مذكراته حول قراءته المتواصلة لنتاجات مثل: “رسائل إلى إميلي عن الأساطير، بقلم تشارلز ألبرت ديموستييه” و”أساطير الشباب، بقلم هنري تارديو- دينيسل”. ويمضي دوماس قائلا: “ لم يكن هناك من إله أو نصف إله، ولا مخلوق أو جن، ولا بطل لم أكن أعرف صفاته؛ هرقل ومهامه الاثنتي عشرة، وجوبتير وتحولاته العشرين، وفولكان ومصائبه الست والثلاثين.. كانوا جميعا في متناول يدي؛ والأمر الأكثر غرابة هو أنهم ما زالوا كذلك..”. 

تلقى دوماس لاحقا تعليمه على يد الأب “جريجوار”؛ ويستذكر دوماس ذلك بالقول..”إن جل تعليمه اقتصر حينها على ذلك القدر من اللاتينية التي استطاع الأب جريجوار أن يُدرسّه له..”؛ مع كتابات “فيرجيل” و”تاسيتوس” في جوهر منهج دروسه. يعترف دوماس قائلا: “لقد عشقت ((أدب)) فرجيل دائما؛ فقد أثر في قلبي تأثيرا عظيما منذ البداية تعاطفه مع المنفيين المتجولين، وصوره المهيبة عن الموت، وحدسه بوجود إله مجهول؛ وكان للحن أبياته سحر خاص بالنسبة لي، وكنت أحفظ مقاطع كاملة من “الإنيادة” (ملحمة فرجيل الشعرية) عن ظهر قلب”. في الواقع كان دوماس يحفظ نحو 300 - 400 بيت من الإنيادة. وبرغم أن دراسات الإغريق القدماء لم تكن ضمن مناهج دراسته؛ لكن المؤرخين، ومنهم “أندرو لانغ” وصفوا تقدير دوماس لـــ”هوميروس” بالقول: “يكتشف دارسو أدب دوماس، بناء على تحليل لأي من نتاجاته (باختيار عشوائي)، أنه لم يكن منحازا لهوميروس فحسب؛ بل كان عارفا ضليعا بتلك النتاجات”. دوماس ذاته أعلن: “آه ياهوميروس القديم، عزيزي الطيب النبيل، أفكر بين الفينة والأخرى أن أترك كل شيء وأتفرغ لترجمة أعمالك.. أنا الذي لا أعرف كلمة يونانية واحدة. كم هي فارغة وكئيبة النسخ التي يقدمها الناس عنك، في الشعر أو في النثر..”. وبالفعل، وفي مرحلة لاحقة من حياته حينما أنشأ دوماس جريدته الخاصة: “الفارس-Le Mousquetaire”؛ شرع بنشر ترجمة إلياذة هوميروس؛  إذ بات قادرا على تقديم تصورات مُرضية (وحتى أنيقة) للكلاسيكيات. كما كتب إلى ولده يُسديه النصيحة قائلا: “أسعدتني رسالتك كما هو الحال دوما؛ إذ أوضحت أنك تقوم بما هو صواب. طلبت مني أن أستخدم ((أنشر)) الأبيات اللاتينية التي تضطر إلى تأليفها، لكنها ليست ذات أهمية.. ومع ذلك تتعلم بواسطتها موازين الشعر؛ مما يُمكنك من التمعّن بشكل صحيح وفهم الطابع الموسيقي لشعر فيرجيل وحرية وسهولة أعمال هوراس (الشاعر الروماني). مرة بعد أخرى ستكون عادة التمعن تلك أمرا نافعا لك إذا اضطررت للتحدث باللاتينية في هنغاريا؛ إذ يتحدث بها كل فلاحٍ هناك. تعلّم اليونانية بثباتٍ وشمولية؛ حتى تتمكن من قراءة ((أعمال)) هوميروس، وإسخيليوس، وسوفوكليس، ويوريبيديس، وأريستوفانيس بالنص الأصلي”. 

طموح على خشبة المسرح

غادر دوماس مسقط رأسه في سن الثالثة والعشرين إلى باريس حيث صنع اسمه؛ ولكن ليس كروائي، بل ككاتب مسرحي. هناك كان تأثير “راسين” (شاعر مسرحي فرنسي. المترجمة) و”كورنيل” (كاتب مسرحي فرنسي. المترجمة) ونتاجاتهما من المآسي الكلاسيكية الجديدة لا يزال محسوسا بوضوح؛ مسرحيات مثل الإسكندر الأكبر، وأندروماش، وبريتانيكوس، وإيفيجينيا، وفيدير؛ وميديا، وهوراس، ووفاة بومبي. حينها، وبعد قرنين من رحيلهما كان “دي جوي” و”أرنو” (كاتبان مسرحيان وسياسيان فرنسيان) قد أمسكا بزمام الأمور في مسرحياتهما؛ مثل بيليساريوس وسولا، ولوكريشيا، وكوينتيوس سينسيناتوس وغيرها.. وفي هذا المناخ من الأدب الكلاسيكي الجديد جاء الرومانسيون. كان دوماس (الذي شاهد مسرحية “سولا” من تأليف دي جوي، عند افتتاحها بمسرح باريس عام 1822) يحمل طموحا كافيا لمحاولة الفوز بالجمهور الباريسي عن طريق إشعال جذوة عظام المسرح الجافة؛ ومدركا أن مهمة تقديم المسرحيات ستقع حتما في أيدي الأكاديميين الذين يكتبون وفقا للقواعد، وبالتالي حولوا الدراما إلى حالة هامدة.  طموح دوماس هذا؛ المتمثل ببث الحياة في الأدب الراكد؛ سيلازمه طوال حياته المهنية. دعمت مسرحيته “كريستين” عام 1830 المنظور نحو الاتجاه الكلاسيكي للدراما اليونانية القديمة؛ إذ قامت على التقاليد الكلاسيكية وتوافقا مع وحدة الزمان والمكان والحدث على النحو الذي وضعه أرسطو. كما أفرط بتقديم التجاوزات الصادمة والمثيرة بأفضل ما يمكن من خلال مسرحيته الفاضحة عن الزنا “أنتوني”. وتلك الأخيرة أثارت ضجة كبيرة، ولاقت نجاحا أكبر بكثير مما كان دوماس يجرؤ على الأمل فيه؛ إذ عرضت لنحو 130 ليلة بمسرح “دي لا بورت سان مارتين”؛ في وقت كانت فيه الحالة السياسية بباريس تؤثر في عمل المسارح (بعد عام واحد من ثورة 1831).. ولعل مما يجدر ذكره هنا أنه كان حينها في الثامنة والعشرين، وأن مسرحية “انتوني” في الواقع فرضت تأثيرا قويا في المسرح الفرنسي؛ حتى أصبح دوماس معروفا للأجيال القادمة كاتبا مسرحيا أكثر من كونه روائيا. 

تاريخ “سهل الهضم”

قدّم دوماس مسرحية “كاليغولا” عام 1847، ثم “كاتلين” عام 1848، و”شهادة قيصر” عام 1849، ثم “أوريستيا” عام 1856؛ لكن خشبة المسرح لم تكن الواسطة الوحيدة لتقديم اهتماماته الكلاسيكية. فبعد عامين فقط من نجاح “أنتوني”، وإذ كانت كتاباته المسرحية في ذروة قوته، نشر مؤلفا تاريخيا بعنوان “الغال وفرنسا”. 

لم يستطع معجبوه أن يتصوروا سبب اهتمام دوماس بالتاريخ الجاف والراسخ، واستاء الأكاديميون من تطفله على مجال عملهم؛ ومع ذلك لم تكن “بلاد الغال وفرنسا” تجربته الوحيدة في هذا المجال. فشخص “قيصر” الذي ظهر في “بلاد الغال وفرنسا” سيعاود ظهورا آخر أكبر وأوسع بعد نحو عشرين عاما.. وهذا ما يصفه “هنري بليز دي بيري” كاتب سيرة دوماس كالتالي: “قال أحد دارسي التاريخ المحليين يوما لدوماس؛ متعجبا من تعرفه على تمثال نصفي لقيصر: “لم أعرف أنك من طلبة علم الآثار”. فأجابه دوماس قائلا: “لستُ كذلك؛ بل لعلني أعرف عن قيصر قدر ما يعرف الآخرون.. لقد كتبتُ عنه تاريخيا فقط”. فسأل الدارس: “أنت مؤرخ! حسنا؛ لكن لم يجرِ الحديث عن هذا العمل مطلقا بين العلماء”. قال دوماس: “العلماء لا يتحدثون عني أبدا”. قال الدارس: “ومع ذلك، كان من شأن تاريخ قيصر أن يثير بعض الضجة..”. رد دوماس: “عملي لم يُثِر ضجة.. لقد قرأه الناس، وهذا كل شيء.. التواريخ غير القابلة للقراءة هي التي تثير ضجة؛ فهي تشبه الطعام الذي لا يمكنك هضمه.. لكن وجبات العشاء سهلة الهضم لا تمنحك أي سبب للتفكير بها في اليوم التالي”. كان ذلك الكتاب “قيصر” دوماس الخاص؛ وقد امتد لنحو ستمئة صفحة.

في بداية عمله أعلن دوماس أن هدفه محاولة إيصال كمية أكبر من التاريخ إلى القرّاء مما يفعل التاريخ الأكاديمي؛ وهو انتقاد ضمني لتلك المؤلفات التاريخية غير القابلة للقراءة والهضم، والتي كان يعتبرها مماثلة لمسرحيات “الكوميدي فرانسيز” الخالية من الحياة؛ ويجادل قائلا: “حينما يُعرض علينا الإغريق والرومان؛ نرى الكثير من التماثيل والقليل من الناس”. وهذا هو دوماس النموذجي، الراغب في أن يجعل التاريخ (كما المسرح) في متناول الجميع، ويجعله مترابطا وممتعا وغير ممل.. لم يكن يريد التدريس فحسب؛ بل أراد أن يرضي ويحرك المشاعر.. لم يبحث دوماس عن الإلهام من مصادر جافة؛ بل من نماذج أكثر قربا من قلبه.. وضع دوماس بنفسه عام 1848 شخصية “هاملت” التي كتبها على خشبة المسرح الفرنسي؛ إذ يخاطبه قائلا: “أه يا شكسبير العظيم؛ أنت يا من فهمت تلك القضايا أفضل من أساتذتنا البائسين في التاريخ الروماني!”. قد يكون تاريخ دوماس أكثر ميلا إلى الفن مما هو إلى العلم؛ ولكن، وكما كان الحال في مسرحية “كاتلين”؛ فإن الشخصيات التي قدمها دوماس (مثل- سالوست وسيسرو (أو شيشرون) وبلوتارخ) كانت جميعها مدروسة فعليا وجيدا. وكذلك كانت شخصيات “سوتونيوس وفيليوس وأوروسيوس، ماكروبيوس، وفيرجيل وأوفيد” وغيرهم. 

نوع أدبي جديد

عام 1839 قدم دوماس؛ كاتب الدراما المسرحية الذي صار مؤرخا؛ واحدة من أوائل رواياته التي تدور أحداثها في العصور القديمة: “آكتيه”، عن أغريبينا ونيرو وعشيقته التي تحمل اسمه. وهي الرواية التي ستُلهم لاحقا “هنريك شتاينبك” الفائز بجائزة نوبل لتأليف رواية “كيو فاديس”. حملت رواية “آكتيه” ملامح متميزة؛ إذ تصور، ربما لأول مرة في الأدب الروائي؛ سباق عربات رومانية من البداية إلى النهاية. وأيضا قدمت نيرون (ربما للمرة الوحيدة في التاريخ) بصورة إيجابية. 

عاد دوماس إلى نيرون ثانية عام 1852 في ملحمة تاريخية أخرى غير مكتملة: “اليهودي التائه”. لكنها لم تُنشر ولم يبق منها سوى جزأين (في 500 صفحة). قضى دوماس نحو 25 عاما في تلك الرواية، ولم يضع قلمه على الورق إلا حينما شعر بأنه مستعد تماما للكتابة. جمع خلال تلك الفترة كما من المواد المصدرية (بشكل غير عادي حتى بالنسبة له). مواد مثل: “الحمار الذهبي” لأبوليوس، و”وصف اليونان لبوسانياس”، و”تاريخ هيرودوت”، و”بروميثيوس مقيدا” لإسخيلوس، و”حياة أبولونيوس من تيانا” لفيلوستراتوس؛ ثم أدخل تلك المواد في ما قدمه من أجزاء؛ إضافة للفلسفة واللاهوتية والعقائدية. 

جرت مقارنات بين “اليهودي التائه” و”الأسطورة الذهبية” التي كتبها “جاكوبوس دا فاراجين” (عن سيرة حياة القديسين. المترجمة) و”حياة يسوع” لإرنست رينان؛ نظرًا للعدد الهائل من الأساطير الموجودة فيها. وحتى في القليل الذي لدينا هناك تجسيدات مظهرية للشيطان، ورحلات هوميروس، وهبوط فرجيل إلى العالم السفلي. لكن ذلك العمل أكثر بكثير من مجرد “وفرة” من الأساطير؛ إذ كان التصور أن دوماس، في محاولته للتوفيق بين التاريخ والأساطير والدين وحتى العلم (إذ كان يمكن التعرُّف على تأثير كتابات التطور لــ”داروين” المعاصر لدوماس) قد ابتكر بشكل أساسي نوعا أدبيا جديدا تماما؛ إذ تتشابك الأسطورة والنصوص المقدسة بسهولة وسلاسة كشكل هجين غير مألوف. ومن تلك الملحمة الجارفة والممتدة، التي تدور في أنحاء العالم وتتحرك عبر العصور، ومن خلال أمثلة من الشعر المحض ولحظات من الخيال الخالص، يسير بطل الرواية الفخور (كإحدى شخصيات الشاعر “لورد بايرن”)، والفكرة المهيمنة فيها. 

شغف بالتاريخ

على خلاف ما جرى حين تأليف روايات أخرى لدوماس؛ مثل “الكونت مونت كريستو” و”الفرسان الثلاثة” (التي استعان فيها بمساعده “أوغست ماكيه” لجمع المصادر)؛ كان “اليهودي التائه” جهدا خالصا لدوماس مكتوبا بخط يده فقط، وقد قدمها ابنه لاحقا للمدينة التي ولد فيها. كان دوماس يعتبر هذا العمل أفضل إنتاجاته، وأنه سيضاهي الإلياذة والأوديسة، راغبا في أن يكون متاحا للجميع. وطالب أن تجري قراءته بالكامل قبل الحكم عليه؛ وهذا لم يعد ممكنا بسبب فقدان النص غير المكتمل. لكن توقف عمل ما أتاح الفرصة لإنجاز أعمال أخرى؛ كان منها “مذكرات هوراس”، المنشورة في أربعة مجلدات عام 1860 في صحيفة “القرن”. 

كل هذا يكشف عن حب دوماس وتعلقه بالأدب الكلاسيكي الذي أبهره منذ الطفولة؛ وانعكس ذلك في نتاجه الأدبي المسرحي والروائي، والفلسفة التي قرأها. كان يقضي أشهرا في المواقع التي تدور فيها أعماله؛ روما ونابولي وبومبي وهركلينيوم وقرطاجة. وليس هذا بالمفاجئ؛ إذ غالبا ما يشير في كتاباته إلى العالم القديم والأساطير. وكما يرى المتصفح لأيٍ من كتابات السفر العديدة الخاصة به المليئة بالحكايات عن العالم القديم؛  وقاموسه الموسوعي الكبير للمطبخ، المكون من نحو ألف صفحة (نُشر عام 1873 بعد وفاته)، الغني بالتلميحات التاريخية والأسطورية والكلاسيكية. ومع ذلك لم يجرِ تقدير الكسندر دوماس كما ينبغي؛ فالأعمال التي ذُكرت هنا تبقى مجهولة نسبيا (خاصة للناطقين بالإنكليزية)؛ برغم ما يحظى به من شهرة واسعة.. للمفارقة!.


عن موقع “الكلاسيكيات للجميع”