حازم رعد
يتمايز الناس في ما بينهم بصفات تختلف من أحدهم للآخر، كالاختلاف بالأمزجة والأذواق ومدارك العقل، وتباين الفهم وطرق التفكير وما إلى ذلك.
كما أن بينهم اشتراك في جملة من السمات العامة، بل لعل بعضها يكون اشتراكهم وتماثلهم فيها قهريا خارجا عن حدود إرادتهم، كالسمات البيولوجية والعضوية وغيرهما. أما ما نحن بصدده، فهو عام من جهة، وخاص من جهة أخرى، وأكثر خصوصية عند بعض الأفراد الاستثنائيين، ولكن قابليته متاحة للجميع من دون استثناء وهو أن للإنسان مجموعة ولادتين.
الأولى ميلاد في الزمن: وهو الميلاد الذي يشترك فيه الجميع على حد سواء، فمن خلال هذه البوابة يدخل الإنسان تاريخ هذه المعمورة، ويكون له وجود كمي عضوي في الزمن، وليس هذا الميلاد في الزمن فيه ميزة لأحد على احد فالجميع سواء فيه، وهذا اللون من الولادات، لا يشكل فارقاً كبيراً بين الأفراد، ولا تمايز فيه في ما بينهم، فقانون الحياة العامة على هذه الوتيرة والشاكلة.
الثانية ميلاد في الوعي، وهي ولادة تحدث في العالم الزمني، أية ولادة في التاريخ والوعي هي اللحظة التي يبدأ الإنسان فيها يفطن للحياة وتتحرك فيه غريزة التفكير والحاجة أو الشغف إلى المعرفة، وحب فهم الاشياء الواقعة من حولة وبين ظهرانيه، وهي لحظة حاسمة في حياة الإنسان. إذ هي بمعنى ما تفرقه عن باقي العجماوات، فلا فرق بينه وبينها مالم يفكر ويعمل عقله، وإن كان هو عاقلًا بالقوة من دون الفعل بسبب الإهمال، وانعدام تلك الرغبة الجليلة في استخدام الذاكرة ودخول الحياة العقلية.
وعن هذه الخاصية فإن الولادة في الوعي تتواجد في مرحلة أكثر تقدماً وتطوراً بالنسبة للإنسان، مرحلة يصل فيها وعي الإنسان إلى التفلسف، وهي الأكثر خصوصية في مراحل الوعي، إذ تقتصر على عدد محدود من الناس، على الرغم من امكانيتها للجميع، ولكن بفعل الإهمال والكسل وعدم الاهتمام واهمال السعي المعرفي عند عامة الناس اقتصر الأمر على طلائع من البشرية.
تشكل كل واحدة من هذه الولادات قيمة من نوع خاص للإنسان، فالولادة الأولى ولعمومتيها لا تشكل فارقاً جوهرياً بين الأشخاص، فالجميع موجود هنا في دائرة الوجود ولحظة الكينونة.
أما الولادة الثانية، فهي فارقة لدرجة أن ولادة الوعي الإنساني تمثل لحظة إفاقة حقيقية للإنسان من سبات العقل، فهذا الأخير حين يتيقظ لما يحصل، وكيف تجري حركة الأشياء، وباي طريقة يمكنه مجاراتها، لحظة فارقة تمثل اكتشاف قارة الذات المختلفة عن الذوات، فالالتفات إلى الخصوصية وإدراك الفوارق عن الآخر واكتشاف مخفيات عالم الذات كفيلة بتعبيد درب الإنسان واقالة العثرات من طريقه، وحل مشكلاته، والتفكير بمعيش أفضل في هذا الحيز من الوجود. أما خصوصية التفلسف، فهي الأكثر أهمية، ولا ينالها إلا ذو حظ عظيم، مثابر، يكافح صنوف المثبطات التي تعيق طريق المشاغل المعرفية، وفاعلية الحكمة، وينشط في أعمال العقل على المستويات كافة، وبطريقة تختلف عن الولادات الاخريات. فميلاد التفلسف يمثل ميلاد تاريخ إبداع الأفكار، والتجديد، ومحاكاة الافذاذ من الفلاسفة، والعلماء، والعظماء الذين تركوا بصمتهم الواضحة في هذه الدنيا، واسهموا بصناعة الحضارة، وابتكار طرق عيشها.
فميلاد الفلسفة حياة الإنسان وسموه العقلي الذي من خلاله يدرك ويفهم ويعالج القضايا والمشكلات ويتمكن من مجاراة الواقع بكل ما فيه من بؤس وشرور، ويكيف نفسه مع تقلبات الحياة وانتقالاتها السريعة المفاجئة.
الفلسفة بوصفها ولادة جديدة في الوعي الإنساني أولاً هذا الوليد سيغير الكثير من المشاهد والاعتبارات في حياة الإنسان، وولادة في الزمن ثانياً، وفي كلا الولادتين يقع الإنسان موضوعاً لها.
إذًا هي تجربة، منها ما قد يكون شخصية "تأملية" تبدأ بمعرفة الذات وصولاً للطمأنينة الذاتية، أو قد تخضع لمنطق العمل، وقد تكون تجربة عامة يخوض معتركها الإنسان من خلال الاقتراب من الواقع والاحتكاك بمشكلاته وقضاياه الراهنة.
وإلا كيف ينمو ألاعقل من دون تأمل يحلل فيه القضايا ويوسع مداركه فيها بأدوات ذاتية، وكذلك من خلال الممارسة التي هي بمعنى من المعاني دربة "تدريب" على الفهم والفعل وتحقيق النتائج، التي تشكل جوهر الرؤية الفلسفية للفرد، أما رؤية شخصية وأما عامة أو كونية.
إن الأمر أشبه بثلاثة عوالم يولد الإنسان في احدها من دون ارادته واختياره، فهو مجبراً في ذلك وفي بعضها الآخر يتاخمها بمحض اختياره، ويسبر اغوارها بملء ارادته. وهذه العوالم الاخيرة هي التي تثبت حضور الإنسان وتحدد اصابة وجوده من ضياعه مع الشتات والتيه في زحمة الآخرين.