الفاعلون والمعذبون في سرديات الحرب
باسم عبد الحميد حمودي
«حكاية الجند» من تأليف صموئيل هاينز وترجمة فلاح رحيم، مؤلف غني بالتفصيلات في أسرار أفظع الكوارث في العالم طيار سابق في الحرب الكورية في الخمسينيات، واستاذ أدب ونقد في جامعة برنستون، وله دراسات مهمة عن شعر أودن وتوماس هاردي، كما أنه كتب الكثير عن الحقبة الأدواردية في الأدب الأنكليزي. إذن: ما الذي دفع البروفيسور صموئيل هاينز لكتابة هذا الكتاب المهم عن سرديات الحرب لدى الإنسان والاهتمام بتوثيق اللحظات الفارقة خلال المعارك؟
يقول المترجم فلاح رحيم، وهو أستاذ أدب أنكليزي وروائي، في مقدمته للكتاب إنه «أقرب إلى هموم الثقافة العربيّة الراهنة (إذ) لم تلق المدونات الشخصية للمشاركين في حروبنا الحديثة ما تستحق من الاهتمام على مستوى الدراسة الاكاديمية الرصينة» وضيف في مقدمة الترجمة إلى العربية أيضا: «حصر هاينز نفسه في حدود القرن العشرين فرصد بدقة النقلة الكبيرة من حرب الفروسية التي سادت في القرن التاسع عشر إلى حروب الخنادق والآليات التي همشت المشاركين فيها وأطاحت بالقيم والمعايير الفروسية السابقة».
ولد صموئيل هاينز في شيكاغو في 29 آب 1924، وقضى 95 عاما قبل أن يتوفى في التاسع من تشرين الثاني 2019 في برنستن، بعد أن بقى في جامعتها حوالي الاربعين عاما أستاذا للأدب الانكليزي.
كان دور هاينز في شبابه كطيار في الحرب الكورية واحدا من أسباب قيامه بتأليف هذا الكتاب التحليلي المهم لسرديات الحرب في القرن العشرين.
وتظهر أهمية هذا الكتاب في أن فصوله تناولت النسغ الحي من دون تقارير الجنرالات المشوهة للحقائق وطبيعة الصراع، بل مذكرات المقاتلين أنفسهم.
إنهم المقاتلون ذاتهم، مهزومون ومنتصرون يتبادلون المواقع التاريخية كما حصلت فعلا، وبذلك اختلف هذا الكتاب الاستذكاري عن سواه.. إذ أستعان المؤلف بكتابات المذكرات الحقيقية للرجال الذين قاتلوا من دون أن يدخل نصوصا للكتاب الأشباح.. بمعنى أنه لم يراجع مذكرات، أو كتبا كتبت بالنيابة على يد كتاب مدربين ومزوقين ومزيفين.. أحيانا!
يتكون الكتاب من ستة فصول، الأول كان بعنوان «الرجل الذي كان هناك» والمقصود به كل رجل ذاق أوار الجحيم منتصرا أو مهزوما، وكتب عنها مثل فارلي موات، وهو جندي كندي حارب على الجبهة الأيطالية خلال الحرب الثانية وكتب عنها، يقول (أنا هائم دون قياد في فضاء غريب) وقبله الرسام والكاتب الويلزي ديفيد جونز الذي خدم في الحرب الأولى وكتب (إذا لم تكن هناك فلأنك لن تفهم أي شيء)، وعشرات أمثال فارلي الكندي والرسام جونز، الذين كانوا وأمثالهم في الحروب المتصلة ومارسوا القتل من دون إيمان به، لكنهم عادوا وقد تحطموا نفسيا وغير متوازنين حياتيا.
وفي الفصل الثاني الذي كان عنوانه «المجندون المدنيون 1914-1989» تجد الشاعر المهووس جوليان غرينفل الذي كتب قصيدة (إلى المعركة) التعبوية كان ضابط احتياط في سلاح الفرسان البريطاني وكتب رسائل متعددة إلى أهله يصف فخره باصطياد الألمان وقتلهم كالحيوانات خلال الحرب الأولى، ولكنه قتل من دون أن يعود إلى بلاده.
كان من أمثال جوليان ابن عمه فرانسس ومئات غيرهم ممن حشوا أذهانهم بـ (أصوت تعلو على صوت المعركة)، وأصبح هؤلاء ضباطا متطوعين في جيش الجنرال كتشنر. بعكس هؤلاء الذين وجدوا في الحرب وسيلة لاثبات قدراتهم على القتل واصطناع مهابة شخصيّة، تجد الألماني اريك ماريا ريمارك الذي قاتل كجندي ألماني في الحرب العالمية الأولى يكتب رائعته (كل شيء هادئ في الجبهة الغربية) بعد انتهاء الحرب كاشفا عن الصورة الوحشية للحرب وسلوكيات المقاتل المستفزة الضارية، فكتب وثيقة إدانة لكل حرب وعدوان.. الأمر الذي دفع السلطات النازية إلى منع كتب ريمارك من التداول، ومضايقته هو وزوجته مما اضطره إلى السفر معها إلى سويسرا، ومن هناك إلى أمريكا.
ويتابع المؤلف يوميات الضابط غرينفل، ومواجهة الألمان في الحرب الأولى واصطيادهم خلسة حتى قتله هو.
يحلل المؤلف (ص72) دوافع الشبان المثالية في التطوع، لكنه يقول (إن المذكرات التي كتبها هؤلاء الرجال لاتظهر حضورا بارزا لهذه الدوافع العاطفية)، ويقدم وثائق ومذكرات كتبها هؤلاء الحالمون بحياة نظيفة تدين الحرب ومسالك النار والقسوة، وأنك لتجد في هذا الفصل نصوصا كثيرة من مذكرات شبان قاتلوا من أجل قيمهم، لكنهم أدانوا الحرب كنظام وسلوك يغير النفس البشرية، ويحعلها أقرب إلى التوحش.
كان الفصل الثالث بعنوان «الحرب في مكان آخر» وتناول مذكرات أخرى للمتطوعين والمجندين عن الحرب في ساحات متعددة وخيباتهم، لكنه يحلل دور الطيار الذي غير نسق الحرب وحولها من معارك متقابلة إلى أخرى تشن في الجو، وكان هو واحدا من رجالها ووقودها.
كان هاينز يصف حرب الطياريين التي تجري في الجو بين عدوين، بأنها حرب مدهشة، ولكنها مؤلمة أيضا.. لكنها أشبه بالمبارزة بالسيف بين عدوين.. طيار يواجه طيارا آخر. تلك هي حرب الجو في الجو. يتابع هاينز أيضا، كتاب ضابط المخابرات الانكليزي الشهير لورنس «أعمدة الحكمة السبعة» ويجد فيه تفصيلات شيقة لحرب لورنس مع البدو العرب خارج بلد،ه وعلاقته بفيصل حتى انتصار الحلفاء والعرب على العثمانيين، لتتضح الخديعة بتقسيم العالم العربي وإعلان وعد بلفور.هنا يقول لورنس (عندما حققنا غاياتنا، وبزغ فجر العالم الجديد جاء الشيوخ مرة أخرى، وأخذوا نصرنا.. وصنعوا ما بدا لهم) وهكذا كانت الحرب خيبة رغم مظاهر النصر الظاهرة.أما الفصل الرابع «حرب الجميع» فهو عن مذكرات الحرب العالمية الثانية التي لم تفاجئ اوروبا مثل الحرب الأولى، فهذا المقاتل الانكليزي ريتشارد هيلاري يقول في مذكراته إنه «لم يكن لديهم ما يستطيعون به المناورة: كانت الحرب قدرا لامفر منه» ص151
والغريب أن المؤلف يقول عن هذه الحرب إنها من أكثر الحروب ديمقراطية، وإنها (المرة الوحيدة في التاريخ البشري التي يخوض الحرب فيها الجميع)، ص155
ويقول إنها كانت حرباً عادلة باعتبارها ضد النازيَّة والفاشيّة، لكنه لا يتحدث طويلا عن هيروشيما وناغازاكي، وجرائم العدوان الياباني على كوريا والصين، أو عن احتلال الهولنديين والانكليز والامريكان لليابان واندونيسيا وفيتنام.
لم يشر صموئيل هاينز إلى احتلال فرنسا المخزي لافريقيا السوداء والجزائر، ولا إلى سوق النخاسة البلجيكي في داهومي وبنين وبوركينا فاسو، مثلما لم يشر تفصيليا إلى حرب البوير التي قادها كتشنر عام 1881، وانتهت باستقلال مجزوء للترنسفال بعد مئات الألوف من ضحايا الحرب.
وينقل هاينز بنبل استثنائي مذكرات الناس العاديين وأوراقهم، وهم يحتلون تونس والجزائر وليبيا ويصفون الأجواء والخوف معا.
في الفصل الرابع الكثير من التفصيلات الشيقة لآراء المشاركين البسطاء، لكن الفصل الخامس المتعلق بفيتنام هو الأكثر مرارة، هو والفصل السادس الذي جاء تحت عنوان «الفاعلون والمعذبون»، حيث يظهر الفاعلون باعتبارهم رجال الحرب المباشرون الذين يمارسون العمل القتالي، فيما يكون المعذبون، هم البشر الذين يتلقون مآسي الحرب بصورهم، وفقدان أحبابهم وضياع مصائرهم. الحرب هكذا.. غاشمة دوما، وليس فيها
جمال.
ونحن إذ ننهي هذا العرض الذي لم يكتمل تماما لضخامة المادة، نجد أن من الواجب تقديم الشكر للاستاذ المترجم ولجامعة الكوفة التي أصدرت الكتاب، وللدكتور حسن ناظم مشرف سلسلة (دراسات فكريّة) التي قامت بتمويل الترجمة والطبع والنشر.