هل ستمضي غزة على مسار حرب طويلة؟

قضايا عربية ودولية 2023/11/23
...

• بول آر بيلر
• ترجمة: أنيس الصفار

يثير عدم وجود أي خطة عملية لحكم غزة في أعقاب الدمار الذي الحقه الجيش الإسرائيلي بالقطاع انتباهاً متزايداً بين المعلقين المتسائلين في كل مكان. هذا الغياب غدا ملفتاً للنظر على ضوء جسامة الهجوم العسكري الإسرائيلي والمجزرة التي تسبب بها، حيث تجاوزت أعداد القتلى من فلسطينيي غزة بفعل الهجمات الإسرائيلية حتى الآن 12 ألف شخص، وهو رقم لن يجد المرء له نظيراً إلا إذا عاد إلى معارك 1948، التي يسميها الإسرائيليون «حرب الاستقلال» بينما يسميها الفلسطينيون «النكبة».


يبدو أنّ إدارة بايدن قد استنفدت كل وقتها واهتمامها الكبيرين على هذه الأزمة في محاولة لحشد التأييد لإسرائيل في بادئ الأمر ومن بعد ذلك (حين تجلت أبعاد الهجوم الإسرائيلي المدمر على غزة الذي أسفر في شهر واحد عن مقتل أعداد من الأطفال فاقت من قتلوا في جميع صراعات العالم خلال عام كامل منذ العام 2019) بدعوى محاولة كبح الاندفاع الإسرائيلي. بيد أن الإدارة لم تقل الكثير حول ما يجب أن يحدث، أو سوف يحدث، عندما ينتهي سفك الدماء في غزة.

رؤية واشنطن
في مؤتمر صحفي أعقب اجتماع «مجموعة السبع» الأخير أشار وزير الخارجية الأميركي «أنتوني بلنكن» إلى عدة معايير تتعلق بغزة في مرحلة ما بعد الحرب، ومن بين هذه المعايير ألا يكون هناك عزل أو حصار ولا إعادة احتلال ولا تقليص مساحة، كما أنَّ القطاع لن يستخدم منطلقاً للإرهاب، على حد تعبيره. هذه المعايير معقولة لكنها تترك أسئلة أساسية بلا جواب بشأن من بالضبط الذي سيتولى حكم قطاع غزة وكيف.
في وقت لاحق قال بلنكن رداً على تلك الأسئلة: إن غزة ينبغي ضمها إلى الضفة الغربية وتوحيدهما معاً تحت ظل السلطة الفلسطينية، التي تؤدي وظائف محدودة في أجزاء من الضفة الغربية تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي. بيد أن هذه الرؤية لن تفلح لعدة أسباب على رأسها أنَّ السلطة الفلسطينية، التي تعد من المخلفات البالية لما كان يفترض أن يكون وضعاً انتقالياً أمده خمس سنوات بعد اتفاقية أوسلو 1993، لا تحظى بشعبية واسعة بين الفلسطينيين. ففي الانتخابات الفلسطينية الأخيرة في 2006 خسرت فتح، التي تهيمن على السلطة الفلسطينية، أمام حماس، ومنذ ذلك الحين أخذت السلطة الفلسطينية تفقد مصداقيتها بشكل متزايد على اعتبار انها لا تعدو أن تكون تابعاً أمنياً للاحتلال الإسرائيلي.

السلطة الفلسطينية
كذلك من المشكوك فيه أن تكون لدى السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس الرغبة في تولي مثل هذه المسؤوليات. فالفوضى والدمار اللذان سيعقبان الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة سوف يشكلان تحدياً هائلاً لأي جهة تتصدى للحكم، ويرى أهالي غزة أنها قد جاءت على ظهر الدبابة الإسرائيلية، بالمعنى المجازي، وهذا سيسقط المصداقية أكثر عن السلطة الفلسطينية في أعين كثير من الفلسطينيين.
إضافة إلى ذلك حرصت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في عهد «بنيامين نتانياهو» على منع أي زعيم او جهة من امتلاك قدرة التحدث باسم الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية معاً. بل أن نتانياهو ذهب في الماضي إلى حد السماح بتحويل الأموال القطرية إلى حماس باعتبارها منافساً للسلطة الفلسطينية، كما كان يحجب عائدات الضرائب عن السلطة الفلسطينية كلما لاحت بوادر تنم عن احتمالات تقارب أو مصالحة بينها وبين حماس. تكتيكات «فرّق تسد» هذه تصب جميعاً، كما قال نتانياهو في اجتماع لحزب الليكود، في صالح منع قيام دولة فلسطينية وتعزيز حجة إسرائيل بعدم وجود «شريك تفاوض» لإقامة مثل هذه الدولة.
نتانياهو نفسه لم يكن حتى الآن أكثر تحديداً وافصاحاً من بلنكن بخصوص ترتيبات ما بعد الحرب. كل ما قاله هو إن إسرائيل قد تبقى ممسكة بزمام «المسؤولية الأمنية» لقطاع غزة في يدها لأمد غير محدد.
عدم وجود خطة ناجعة محددة المعالم لمرحلة ما بعد الحرب في قطاع غزة أمر لا يمكن تبريره، لاسيما من قبل إسرائيل نفسها أكثر من الولايات المتحدة لكونها الطرف المتسبب بالخراب الماضي في مجراه.

غضب وانتقام
لكن غياب الخطة هذا قد تكون وراءه أسباب مفهومة. فالحافز وراء الهجوم المستمر كان الى حد كبير ذلك الغضب العاتي الخارج عن حدود السيطرة ونزعة الانتقام التي أعقبت هجوم حماس الشرس على جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول. وعندما يقول «اسحاق هرزوغ» الذي يعتبر شخصية معتدلة نسبياً بالمعايير السياسية الإسرائيلية ويشغل منصب الرئيس الاسرائيلي الشرفي الى حد كبير: إن «ما من مدنيين أبرياء في غزة».. وإن «الأمة الفلسطينية كلها «مسؤولة» عما حدث في 7 تشرين الأول، يتجلى عمق النقمة العاتية والكراهية العمياء اللتين تتحكمان بالسياسات الاسرائيلية ولا يمكن أن تصلحا بيئة للتخطيط المسبق المدروس.
الفكرة القائلة بأن «تدمير حماس» يجب أن يحتل الأسبقية الأولى التي لا تعلو عليها أسبقية، وأن هذا الأمر يجب إتمامه قبل القبول بأي وقف لإطلاق النار، أو حتى التخطيط الجدي لما سيأتي لاحقاً، تنطوي على سوء ادراك للمصدر في غزة الذي ستنبثق منه التهديدات الأمنية مستقبلاً. هذه الفكرة وصفة ايضاً لحرب بلا نهاية في غزة.
حماس أكثر بكثير من الجناح العسكري الذي نفذ عملية في يوم 7 تشرين الأول. فحماس هي الإدارة المدنية الفعلية لرقعة يقطنها نحو مليوني إنسان كما انها حركة قومية كان هدفها على طول الخط تأسيس دولة فلسطينية ذات مسحة إسلامية. فلو أمكن «تدمير» حماس بالفعل – وهو أمر محال لكونها حركة وطموحاً قومياً- سوف تبقى هناك مسائل كبرى تتعلق بإدارة قطاع غزة يوماً بيوم في شؤون تشمل كل شيء من الرعاية الصحية الى توليد الطاقة الكهربائية.

دمار شامل
يؤكد الإسرائيليون أنَّ عمليات القصف التي ينفذونها، والتي تصل أحياناً الى 300 أو 400 طلعة جوية في اليوم، موجهة بعناية الى ما يصفه الإسرائيليون بأنها «أهداف إرهابية» لا إلى تهديد حياة المدنيين الفلسطينيين. بيد أنَّ هذه التأكيدات لا وزن لها نظراً لحجم الدمار الناجم ومداه، ونظراً لما يروج من تصريحات كتلك التي اطلقها هرزوغ وما تكشفه عن أن العملية في حقيقتها عقاب جماعي للشعب الفلسطيني، ثم نظراً أيضاً للتعتيم الذي يلف أهداف العملية الإسرائيليةِ، وحقيقة أن الأجهزة الأمنية التي تتولى تحديد الأهداف هي نفس الأجهزة التي غاب عن فطنتها هجوم حماس في 7 تشرين الأول.
حصيلة ذلك هي أنَّ الهجوم ربما يكون قد أصاب مقومات إدارة قطاع غزة المستقبلية بأضرار أشد وأبلغ من تلك التي أصاب بها من كان يرجى صدهم دون ارتكاب مزيد من العنف المسلح ضد إسرائيل. وكما يعلق «ناثان براون» من جامعة جورج واشنطن فإن احتمال ان يتمكن الجناح العسكري لحماس من إحكام قبضته مستقبلاً على المنظمة سيكون كبيراً نظراً لكون جناحها السياسي هو الهدف الأسهل تضرراً من الجناح العسكري، ولأن الجناح العسكري سوف يصم اي إدارة تتولى الحكم بعد الحرب وتستهدف الحركة بأنها متواطئة مع المسعى الاسرائيلي للقضاء عليه.

قوة دولية
لقد بدأت المناقشات داخل حكومة الولايات المتحدة وأماكن أخرى حول إمكانية إنشاء قوة دولية لحفظ السلام، أو أي شكل آخر من اشكال الحضور في غزة. بيد ان اي ترتيبات من هذا النوع لن يمكنها التصدي إلا لأمور معينة وخدمات محددة بالذات على المدى القصير. حتى الحضور الدولي لأغراض معينة قد يصعب تشكيله، فعلى ضوء تقرير الأمين العام للأمم المتحدة «أنتونيو غوتييرز» الذي ورد فيه أن 92 شخصاً من العاملين في وكالة الأمم المتحدة المكلفة بتقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين قد لقوا مصرعهم في الهجمات الاسرائيلية على قطاع غزة يمكن تفهم التردد في توسيع دور الأمم المتحدة هناك. كذلك فإن الدول العربية في المنطقة سوف تحجم عن تولي المسؤوليات في غزة لذات الأسباب العامة التي تبديها السلطة الفلسطينية. أي وجود أميركي او غربي، خصوصاً على ضوء السياسات الغربية الداعمة للحرب الإسرائيلية، سوف يرى فيها كثيرون مجرد صيغة أخرى من صيغ الاحتلال الأجنبي. مهما بذلت اسرائيل من محاولات وجهود لتدمير حماس فإن المواطنين الاسرائيليين لن يصبحوا بمأمن من العنف المرتبط بغزة الى أن تسمح اسرائيل للشعب الفلسطيني بتقرير مصيره. ومهما بلغت قوة شجب البعض لما أقدمت عليه حماس في 7 تشرين الأول ستبقى الحقيقة أن تلك لم تكن نقمة هبطت من السماء بلا سبب او مقدمات، بل كانت تجسداً عنيفاً لغضب متصل كل الصلة باحتلال وحصار وإخضاع دامت عقوداً فرضتها أمة على أمة اخرى.
بالإضافة الى النقمة التي بقيت مستعرة في القلوب طويلاً هناك الآن ذلك الغضب الناجم عن عنف اسرائيل الذي رفع أعداد القتلى الفلسطينيين الى رقم من خمس مراتب في شهر واحد، ناهيك عن المعاناة الهائلة الأخرى التي يعيشها قطاع غزة. وحتى لو تحقق تدمير حماس بصيغتها الحالية على نحو ما فسوف تظهر تجليات مستقبلية عنيفة أخرى لذلك الغضب على شكل صيغ أخرى من حماس، او من جماعات او أفراد غير حماس. الأمر كما اشار «دانييل كورتزر» سفير الولايات المتحدة السابق لدى اسرائيل في ملاحظاته حين قال: «نظراً لكونها حركة لا جيشاً نظامياً تعلم حماس أن في يدها القدرة على تجنيد اتباع متشددين جدد في صفوفها مقابل كل مقاتل يسقط وكل مدني يلقى مصرعه.»
يحاول المسؤولون الاسرائيليون مؤخراً اضفاء شيء من التبرير العقلاني على الخسائر التي تسببوا بها بين المدنيين جراء هجماتهم من خلال التذكير بعمليات الولايات المتحدة وحلفائها في الحروب الماضية، مثل عمليات القصف على المانيا في الحرب العالمية الثانية والقاء القنابل الذرية على اليابان. المغزى المراد من تلك الاشارة هو ان الأمور تتطلب احياناً قتل العديد من الأبرياء لتحقيق نتائج عسكرية ناجحة تسفر عن مستقبل أفضل وسلام أوفر.

التاريخ البديل
بيد ان هذا التشبيه الاسرائيلي يغفل جزئية بالغة الحساسية من المتابعة السياسية. فبعد النصر العسكري الذي حققه الحلفاء والاحتلال الأولي في مرحلة ما بعد الحرب ولدت جمهورية المانيا الاتحادية المستقلة في العام 1949 كما استعادت اليابان سيادتها الكاملة بعد ذلك بثلاث سنوات.
دعنا نتخيل أن تاريخاً بديلاً هو الذي حدث، تاريخ يستمر فيه الاحتلال الأميركي لليابان الى أمد غير محدد، ويُجرد اليابانيون من حقوقهم السياسية ومن حق ابداء الرأي في كيفية ادارة بلدهم. تخيل ايضاً لو ان الاحتلال تضمن طرد كثير من اليابانيين واخراجهم من اراضيهم لإحلال مستوطنين أميركيين محلهم واحتجاز المتبقين من اليابانيين في سجن مفتوح تحت حصار خانق. ستكون النتيجة الحتمية آنذاك هي ظهور حركات مقاومة عنيفة قد لا تخلو من بعض صور الارهاب.
هذا التاريخ البديل قد يصلح تشبيهاً حقيقياً لما كان يحدث في فلسطين على مدى السنوات، بما في ذلك غزة، والذي سوف يستمر بالحدوث ما لم توضع خطط افضل من تلك التي يعلن عنها بخصوص ما سيعقب الهجوم الحالي. ذاك مستقبل سمته الحرب الأبدية، وهو المستقبل الذي ستساعد الولايات المتحدة على ادامته ما لم تستخدم قوة تأثيرها الاقتصادية والدبلوماسية، ليس فقط لإكساب دعواتها للإسرائيليين بضبط النفس في الموجة الحالية من الاعمال العسكرية قوة الفرض بل ايضاً لاستحضار المناخ المناسب لحل سياسي طويل الأمد للصراع الاسرائيلي الفلسطيني.

* عن مجلة «رسبونسبل ستيتكرافت»