ما الذي يدفعنا نحو التعاطف الأدبي؟

ثقافة 2023/11/26
...

 ابتهال بليبل


غض الطرف (نقديا) عن نصّ ما بسبب (التعاطف) مع منتجه، سيكون أحيانا ضارا ومؤذيا، أنه يجعل النص المتعاطف معه في خانة الخمول النقدي، وبعيدا عن الإضاءة، ومنزويا في ركن مهمل عن كل حراك نقدي أو نقاش فعال.التعاطف الذي ينشأ ويتشكل في دواخلنا هو لأسباب كثيرة، قد يكون من أهمها أن النص لصديق لنا، أو لأنه يمثلنا في تجلياته وموضوعاته، أو لأنه ينتمي لقضية نراها عادلة وتستحق الدعم، ولكن قد يغيب عن بالنا أن النص شيء، والقضية شيء آخر والدعم ربما يجب أن يكون لنصوص عالية لا واهية. التعاطف الذي ننميه من خلال الأدب وننشره ونحاول أن نرسخه بوصفه لمحة إنسانية راقية صادقة يجب أن نتحلى بها، هو (عاطفة) بينما الاهتمام النقدي حالة موضوعية (عقلانية) تلتزم بشروط النقد العلمي، لذا ما أجده منطقيا إلا مقارنة أبدا.. من هنا يجب أن نبعد النص عن المساحة الرخوة  للتعاطف، لأننا بذلك نقترف إساءة للمنجز وصاحبة من حيث نقرّر إننا نحبّه. ولكن ما هي آراء النقاد والكتاب والمتابعين، ماذا يقولون عن الذي يدفعنا نحو التعاطف الأدبي؟ وهل بالفعل هناك تعاطف مع النصوص؟

النقد وعيوب النص 

لعل من أولويات التعامل نقدياً مع النص الأدبي، بحسب الناقد عبد علي حسن، تستلزم فيما تستلزم خطوات للدخول نقدياً إلى منطقة النص هو عزل النصّ وكاتبه عن اي عامل خارجي، وبمعنى آخر التجرّد عن التأثير الخارجي، والوقوف بشكل محايد إزاء قدرة النص وفاعليته الفكريّة والجمالية على مستوى الذات والموضوع، ويصبّ ذلك في مجرى الشعور بالمسؤولية النقديّة أمام ما يصدر من منجز إبداعي. 

ويتابع الناقد: لذلك فإن التعاطف مع المنجز الأدبي يعدّ من العوامل الخارجية التي ربما تحكمها الشخصنة وعدم الشعور بالمسؤولية النقدية ، كما أن هذا التعاطف هو أمر أو إجراء مضرّ للكاتب والناقد والمشهد الثقافي عموما.  

ويؤكد أن “عملية تقصي هذا الإجراء في المشهد النقدي العراقي تشير إلى وجود هذه الظاهرة والمحتكمة في أحيان كثيرة إلى موجهات القراءة الدراسية أو البحثية التي تتجنب الخوض في فواعل النقد بعدّه آلية للكشف عن سلامة النص من زائفه كما ذهبت إليه التعريفات التي تضمنتها المعاجم اللغوية، خاصة إذا سلّمنا بمقولة أن ليس هنالك نص متكامل.  

فكل النصوص، وفقا لتعبيره، خاضعة لمساءلة النقد وإن كانت بدرجات متفاوتة. 

ويقول: تجربتي النقدية لم تشهد تعاطفاً مع أي منجز أياً كان جنسه ونوعه، إذ أعزل النص في تعاملي معه نقدياً عن أي عامل خارجي، ووفق ما ذهبت إليه آنفا فإنه لامجال للتغاضي عن عيوب النص، لأن هذا التغاضي سيشكّل خللاً وارتباكاً في سلامة العملية النقدية، كما يحصل الآن في متابعتنا للمقالات والدراسات التي تنشرها الصحف والمجلات الأدبية التي تخلو من النقد الذي ترك الساحة للدراسات الانطباعية والذوقية التي تجعل من التعاطف والتغاضي سبيلاً إلى مقاربة النصوص. 

وبهذا الصدد فنحن نشير إلى خطورة هاتين الظاهرتين الشائعتين في المشهد النقدي العراقي الذي نرىٰ من الضرورة أن يكرّس الفعل النقدي السليم المعزّز للإيجابي في النص الأدبي وإمكانياته في التجاوز على المستوى المعرفي والجمالي ومشخّصاً لعيوب النص التي في الإشارة إليها تكريساً لتقاليد النقد الفاعل والمؤثر لتجاوز العثرات 

النصية .


الأصح، الأصوب 

يرى الناقد الدكتور عمار الياسري أن ثمة تعريفات متنوعة للتعاطف في علوم الآداب والنفس والاجتماع تذهب غالبًا إلى مشاركة وفهم مشاعر الآخرين في تجاربهم سواء كانت السلوكيّة أم المعرفيّة، لذا تبلورت مفهومات مثل التعاطف الشعوريّ والمعرفيّ والمنظم وما إلى ذلك، تعتمد في تعريفاتها على صدق التجربة ما بين الناص والنص والمنصوص له. 

ويوضح الياسري أن «ثمة علاقة تجعل القارئ أو الناقد يتعاطف مع بنية النص السياقيّة على حساب البنيويّة». 

ويرى الياسري أن من مصاديق هذا التعاطف التجارب الشبابيّة التي لو حوكمت بصرامة نصوصيّة لذوت وتلاشت، «لذا قد يسبغ الناقد عليها كلمات التشجيع الصادقة مع بيان النصح في مواطن الضعف والنكوص»، على حد قوله.

فالتعاطف المعرفي ما بين الناقد والنص، بحسب الياسري، مرده الذكريات المشتركة للبدايات من جهة، وتقويم التجربة من جهة أخرى. 

ويؤكد: لذا تعاطفت نقديًا مع تجارب نسويّة سرديّة كربلائيّة غضة من أجل تشييد المشهد الثقافي النسويّ في كربلاء، فلم استعمل مفردات قاسية في قراءتي للمشهد السرديّ النسويّ، بل عملت على تقويم التجربة عبر مفردات مثل (الأصح، الأصوب، يا حبذا، لو) بلحاظ عدم أسباغ صفات التعظيم والتبجيل على من وقع عليهم التعاطف المعرفيّ.

الياسري قبالة هذا المشهد يشير إلى أنّ هناك التعاطف السلبيّ، أي تصنّع التعاطف. 

ويوضح أن “هذا مرده رغبات نفسيّة واجتماعيّة تتنافى مع أخلاقيات الكتابة النقديّة، بل تسهم في شيوع النصوص الزائفة وفقدان المعايير واختلاط الحابل بالنابل، وهذا ما تجسّد في مشهدنا النقديّ المعاصر بشكلٍ واضحٍ وجلي، فالأخوانيّات والرغبات النفسيّة ساهمت في إشهار أسماء أدبية لا تستحق المنزلة النصوصيّة التي وصلت لها من جهة وشيدت مفاهيم نقديّة مشوهة علميًا وأكاديميًا من جهة أخرى”. 

ويتابع: ليس هذا فحسب، بل فتحت الباب لغير المتخصصين في ولوج عوالم نقديّة كانت عصية عليهم يومًا ما.

ومما تقدم يقول الياسري إن “التعاطف بمفهومه العلمي والأكاديميّ لا غبار عليه، وهذا ما تلمسناه من شيوخنا النقاد، مثل علي جواد الطاهر، وعناد غزوان، فاضل ثامر، وياسين النصير، وطراد الكبيسيّ، الذين زرعوا فينا لذة الكتابة وجذوة الوعي، في حين ساهم التعاطف السلبيّ المتسيد على المشهد، بسبب فقدان معايير النشر، والكتابة في تشويه المشهد الثقافيّ بشكل كبير، لذا يجب على المثقفين المعرفيين فضح هذه الأسهامات وبيان زيفها وغاياتها الدنيئة”.


التقاط الجماليات

من جهته، يعتقد الناقد والشاعر أحمد الشطري بأنه غالبا ما يكون التعاطف مع نص ما مبنيا على علاقة رابطة مع منشئه، أيّا كانت صفة تلك العلاقة (صداقة أو تلمذة أو إعجاب أو غير ذلك)، وهي بالتأكيد مستمرة وليست محددة بزمن. 

ويتابع الشطري: كما إنها ومن دون شك ظاهرة متفشية في الوسط الأدبي وفي غيره بل مترسخة؛ لأنها ترتبط بالعلاقات الاجتماعية أكثر من ارتباطها بالتلقي الفني، ولكنها قد تفضي في بعض الأحيان إلى منطقة التلقي الفني إذا ما كان ذلك النص يمتلك الاشتراطات الفنية والإبداعية. 

ومن ثم فإن مثل هذا التلقي (التعاطفي) بنظر الشطري «قد يكون فعلا إيجابيا أكثر مما هو سلبي».

أما على مستوى التعامل النقدي، فيقول إن «الكثير من النقود قد لا تخضع للدواعي الإبداعية، خاصة في وقتنا الحاضر الذي أصبحت فيه الكثير من الدراسات النقدية ناتجة عن تأثير العلاقات الاجتماعية»، وهي من هذا المنطلق، كما يؤكد الشطري «لا تبحث عن السلبيات، وإنما تنحصر في إظهار وبيان النقاط الإيجابية للنص، وفي كثير من الأحيان يلجأ البعض إلى اختلاق تلك الإيجابيات وإن كان النص يخلو منها».

 أما على المستوى الشخصي فدائما ما يحرص الشطري على التقاط الجماليات التي تتوفر في النص، ويتابع: وفي ذات الوقت ألجأ إلى الإشارة المموهة، وليست الصريحة عما أجده سلبيا ويخل بقيمة النص الفنية والجمالية، كما أحاول دائما تجنب الكتابة عن النصوص التي لا اتفاعل معها والتي أجدها لا تستحق القراءة النقدية وفق رؤيتي الخاصة، بمعنى أن قراءتي لها ستكون قراءة سلبية غير منتجة، ولكنها في ذات الوقت تتجنب الإحراج لمنشئ النص خاصة إن كان على قيد الحياة، حتى وإن لم ارتبط معه بعلاقة معينة. 


 تقنيات النص المكتوب

وبدورها، ترى الكاتبة والشاعر رولا حسن أن التعاطف هو حالة شعورية تتولد لدي بشكل موازي لحالة الإعجاب بالنص، وهذه الحالة تتولد لدى القراءة الأولى للنص الذي أرغب بدراسته نقديا. 

وتوضح أن «هذا يعود أيضا إلى مدى أهمية النص والحساسية التي أثارها داخلي، والتي دفعتني إلى قراءته بشكل مغاير مرة أخرى.

فهناك نصوص كثيرة تقرأها مرة أخرى ثم ننحيها جانبا».

وتقول حسن: سأكون واقعية إذا ما تعاطفت مع نصوص لأصدقائي، لكن لم أكتب عنها شيئاً، أنا كنت أعطي رأيا شفهيا، والعكس صحيح، حين تعجبني فبالتأكيد سأكتب عنها. 

التعاطف كظاهرة، بحسب حسن، متواجدة بكثرة في الأوساط الأدبية على اختلاف مجتمعاتها، ولكن في مجتمعاتنا الشرقية متواجدة بشكل كبير للأسف، إذ يتم تسليط الضوء على أهمية نص في أحيان كثيرة لمصلحة ما، أو ربما لأن كاتبته امرأة، الأمر الذي أدى، فجأة إلى ظهور أسماء ترتفع سريعا ومن ثم تغيب أو تنطفئ، بل ولا تذكر على الإطلاق.. والأمثلة 

كثيرة. 

وتضيف رولا حسن: بالنسبة لي فإن كل النصوص التي كتبت عنها كنت قد تعاطفت معها، وهذا الأمر مصدره واحد وهو إعجابي بتقنيات النص المكتوب، وانحيازه إلى الحرية والحب والجمال في طرحه للقضية المراد الحديث عنها. 

وتشير حسن إلى نقطة مهمة، هي أنه لا يوجد نص خالٍ من العيوب أو نص كامل بالمطلق، هذا رأيي طبعا ولكن حين تكون العيوب لا تقاس إلى جانب الأشياء الجميلة في النص من جدية في الطرح، أو من حيث التقنيات السردية وسلاسة الأسلوب (اللغة) فإني لا أتغاضى عنها كليا، وإنما قد أشير بطريقة غير مباشرة إلى هذه العيوب، بحيث لا يبدو الأمر، وكأني أبحث عن النقائص والاخفاقات لأظهرها علناً، «وبذلك أفسد على نفسي، وعلى القارئ إنشاء وقراءة نص مواز وجميل للنص الأصلي»، بحسب رأيها. 


المشهد الثقافيّ

أما الكاتب والقاص ميثم الخزرجي، فيرى أن ماهية التعاطف تخضع لكم من الأنساق المعرفية والاجتماعية المعبأة بحمولة ثقافية لها مرجعياتها المتسقة بحياة الإنسان نفسه. 

ويتابع: وهنا تكون بعض السمات المعنية بطبيعة مجتمع معين لها مقدّراتها المؤهلة في إبراز هوية ذلك المجتمع وقد تشترك معاني الطبيعة وتقلباتها في ذلك، فالماء والأرض الزراعية دلالة على السياق غير المتكلف وقد  يكون عماد المدن بطابعها العام وفضائها السائر ذات بعد جدلي لينسحب هذا الحال على الذائقة وطريقة تعاطيها مع المتون الأدبية وجميع الفنون المستقاة من بيئتها. 

 ويقول الخزرجي: غير أن كنّه ومزية التعاطف يكون رافده الأول الفكرة بعيداً عن الاشتغال الجمالي والفني للنص كونها متفقة مع متبنيات المتلقي من الناحية الإجرائية ومنسجمة مع رؤيته للواقع بمستجداته الوافدة، فقد تكون الفكرة عظيمة بيد أن لغتها متخبطة فنياً قياساً مع مآلات الإنسان ولا تتفق مع كونية المشروع الطليعي وحداثه اشتغاله. 

ويضيف: لذا فأن نظرة الشفقة للنص الادبي – إن صح تسميتها هكذا-  متحدة مع جوانية الفرد، بغض النظر إن كان الفرد ناقداً أو بقالاً متواضعاً، أما بوصفها ظاهرة لها اجتراحاتها التي تعضّد سير النص وتزيد تداوليته قد يكون كذلك لكن بنسبة تتراوح ما بين المجاملة والتفاقم المجاني في السمات والنعوت الأدبية التي ينعم به المشهد الثقافي. 

ويؤكد: لكني أتوقف كثيراً عند صفة الناقد ومشغلة العلمي المتخذ من المنهج مستقرئاً لفحص النص وتفكيك مدخلاته الفنية ليكشف عن قصدية اتخاذ المفردة وبناء الجملة تبعاً لهاجس الكاتب ومدى إمساكه بالمعنى فضلاً عن نظرته المسقرئة للأوان الذي ولد منه الأديب وانبثق منه النص.

لذا فأن معيار الناقد الجاد صاحب المشغل المضيء، بحسب رأيه، قد يتعاطف مع الفكرة التي تؤثث النص وتدير شأنه  لكنه لا يهمل الهنات والعقبات الموجودة فيه أو يتغاضى عن التنويه إليها، ولو أشرنا إلى السياق المعمول به في أغلب المشهد الثقافي الحالي خصوصاً بعد العصر المعلوماتي الصاخب الذي هوّن الكثير من الأخطاء وأجاز محتواها طمعاً للوصول، تجد أن ثمة سماتٍ سائلة منحت لكثير من أصحاب الأقلام البائسة والمتواضعة، ساعين بأن يتفردوا بآرائهم المجانية التي لا تنم عن وعي محكم ولا دراية عالمة تكفل لهم الحق بالتصدر في هذا 

المجال.