ذاكرة الصبوات الماضية

ثقافة 2023/11/26
...

 ريسان الخزعلي


لا تأت متأخراً، مجموعة الشاعر جلال حسن، وهي الإصدار الأوّل له، تكشف عن شعريّةِ بوح ٍ حسّي بعيداً عن التجريد الذي يلفح كتابة قصيدة النثر في الكثير من نماذجها المتعجّلة، إذ أن التجربة الحياتية فيها هي المهيمن الدّال الذي يُفضي إلى المعنى الشعري، فلا تغريب ولا استعارات ذهنيّة عليلة الصدق، وإنما مواجهات مع تعارضات يومية سالبة للطمأنينة في هذا الوجود:

نظرتُ إلى صورتي في المرآة

* هذا ليس أنا، هذا رجل ٌغيري..

يرتدي بدلة أنيقة وربطة عنق حديثه..

هذا ليس أنا، أنا رجل ٌحزين للغاية.. 

إذن، هذه المرآة كاذبة، وهذا رجل ٌغيري!.

إن َّهكذا تعارض – وهو أوّل ما يُطالعنا في المجموعة – يُشير إلى الانشطار بين مواجهتين،  مواجهة حلميّة عصيّة على التحقق، وأخرى متحققة صادمة. ويتأكد هذا التعارض أكثر في القول اللاحق (العاشق الهائم غريب الديار، لاقى حتفه في الهشيم، لايهم ُّ مَن يؤدي لهُ التحيّة، الذي يهم كيف صار ضحيّة..؟). وهكذا كانت التعارضات الوجودية كما في هذين النموذجين وفي الكثير من غيرهما، هي الشاغل الشعري في المجموعة، وهنا يُجاور الشاعر – وبدهشة – العمق الشعري الذي قامت عليه تجارب شعريّة سابقة في كشف وتعرية تعارضات الواقع الصادمة، وتشكيلها شعراً، لا للتسلية، وإنما للإجابة عن السؤال الوجودي.. لماذا يحصل هذا..؟:

ليس هنا السؤال..!

السؤال: حين يتوزّع العمر

بين رغبة عارمةٍ وخطى خاسره..

إن السؤال بشقّيه، الفلسفي والفكري، عندما يشغل الشاعر، فإن َّالمتحقق الشعري، وإن لم يضمن الإجابة، إلّا أنّه في الطريق إليها كي يمسك المتعة الحسيّة/ الروحية..، كي يلمح الأثر غنائياً..   هذا ما تشاغل به الشاعر في أكثر من قصيدة، حتى وإن كانت المشاغلة الشعرية مع المرأة:

أنا هكذا..

غريب ٌعلى الطريق

وأنت كذلك..،

نخدع أنفسنا بمكان ليس لنا..

* في (لا تأت متأخراً) سواء في المجموعة -بمعظم قصائدها -  أو القصيدة ذاتها، هنالك ما هو مُنتظَر، هنالك ما هو صبوات قديمة لم تتحقق، هنالك خساراتُ حُبّ وحروب وحصارات، يقف الشاعر إزاءها متحسراً منتظرا ً من يأتي، لعلّه المُخلّص:

لا تأت متأخرا ً

ما نفع مجيئك..؟

لقد فات الأوان وانتهت فصول الحفل

بعدما رفع الغريب كؤوس الوداع..

*  ماتقدّم، ما هو إلّا خُلاصة ممكنة لطبيعة متون المجموعة. أما في الملامح الفنيّة فيمكن الإشارة إلى القدرة في الاختزال والبناء المسترسل التراكمي والصياغات الفنية التي تعلو بالقول الشعري إلى مصافات أرقى من الكلام، وكمثال: (علينا أن نجلس متقاربين لأحكي لكِ قصة الحب ّالذي رُسمَ على قلب من ورق، وحين تبلل بالماء، لم يذبل.. صارَ أُغنية..)، وأجد أن َّ(لم يمح) هي الأكثر قرباً للتوصيف.

ويمكن الإشارة إلى غياب علامات الاستفهام والتعجّب في أكثر من موضع، لأن هكذا علامات كما هومعروف تمنح القول صوتا ًإضافياً.

وفي إشارة أخرى، وطالما أنَّ الشاعر يكتب قصيدة نثر، أجد أنَّ الشكل الأفقي – وهو الشكل الأساس لقصيدة النثر في نشأتها الأولى – هو الملائم في كتابة هذه القصيدة أكثر من الشكل العمودي الذي يُحتّم تشكيل المفردات أحياناً. وقد نجح الشاعر في كتابة قصيدتين أو أكثر بشكلٍ أفقي (أيّها الليل يا مخدع العشّاق يا وسادة طير حزين، الكراكي تنام وحدها، ونخلة الدار شاهدة على قطاة تسلّقت نخلة الروح، وذابت بصلاة فقير حافي القلب والوجدان، وينقّط للحبيب أناشيد الغزل الغجري!..).

وفي المفتتح الأخير، تؤكد لنا مجموعة (لا تأت متأخراً).. إنَّ شاعرها، مهما اكتفى بضوئه، إلّا أنّه في الضوء الأوسع الذي جاءت به هذه المجموعة.