ما تفعله التفاسير

ثقافة 2023/11/27
...

  شاكر الغزي

لعل أبسط وأجلى تعريفات علم التفسير: كشف وبيان المعنى المراد من اللفظ القرآنيّ. وبعبارة أوسع قليلا: توضيح وبيان معاني آيات القرآن الكريم، وكشف مداليلها؛ من أجل فهم مراد الله تعالى منها. ولكن.. هل فعلا هذا ما تفعله التفاسير؟ بمعنى أن القارئ العادي لو قرأ تفسير الطبري أو الميزان أو الكشاف أو التحرير والتنوير بحثاً عن معنى آيةٍ ما من القرآن الكريم فهل سيفهم مدلولها بسهولة؟أم أنه سيخرج مشوشاً من كثرة الآراء والنقول، والتي بعضها يبهِم أكثر مما يبيِن؟
أمّا لو قرأها جميعاً، أو أضاف إليها غيرها، فلا شك أنّه سيتشتَّت كثيراً؛ ربّما لهذا ظهرت فكرة التفاسير المختصرة مثل الوجيز للواحديّ الذي ألّفه بناءً على رغبةِ أحد طلابه في تفسير سهل العبارة، يقتصر على قول واحد في معنى الآيات المختلف في معناها.
على سبيل المثال، فمنهج الطبري في تفسيره هو ذكر الأقوال المختلفة، ثمّ إيراد جميع مرويات من قال بكلّ رأيٍ على حدة. ويلاحظ أنّ بعض المرويات التفسيرية تكون متباينة، وأحياناً متناقضة!.
وفي تفسير الميزان، ذكر الطباطبائيّ أنّ الأقوال المنقولة في تفسير قصة ذي القرنين مختلفة اختلافاً عجيباً حدّ التناقض والتهافت، وحدّ أن يستوحش منها الذوق السليم وينكرها العقل، ثمّ ذكر تسعةً من أوجه تلك الاختلافات.
وهذا التعدّد في اختلافات النقول الذي تنتج عنه احتمالات تفسيرية متعدّدة؛ يؤدّي ــــــ بحسب عالم سبيط النيليّ ـــــ إلى زيادة الجهل بالقرآن وتضليل القارئ.
صحيح أنّ استيفاء جميع الآراء المذكورة مهمّ جدّاً من ناحية الأمانة البحثية والدقّة في النقل، وعدم إقصاء وتهميش أيّ رأي مهما كان شاذّاً أو غريباً؛ لأنّ ما هو غريب في وقته قد يكون هو التفسير الأرجح في وقت لاحق، وربّما أنّ الرأي الشاذّ المنقول بعبارات غامضة وقديمة يمكن فهم مدلوله في أزمنة أخرى، وقد حدث ذلك مع كثير من النصوص القديمة، غريبة العبارة.
ولكن، ما لم يتوضّح هذا؛ فالتفاسير تضلّل أكثر ممّا تبيّن!.
مثلاً، ذكر ابن عادل الحنبليّ صاحب تفسير اللباب، أكثر من 13 قولاً في تفسير (الشَّفْع والوَتْر) من سورة الفجر، وهي لا تمثّل كل الآراء التفسيرية المذكورة؛ إذ قال بعدهنّ: وقيل غير ذلك!.
ولو أنّه اقتصر على قول ابن الخطيب: الشَّفع والوَتر هو الذي تسمّيه العامة: الزَّوج والفرد؛ لكان أكثر إيضاحاً، وأنسب من حيث الفهم.
أمّا الآراء الأخرى فلا بأس بإيرادها على أنّها مصاديق للشفع والوتر، تتفاوت فيما بينها من حيث الجلاء والانطباق!. وكذلك يجب أن نفهم ما يرد في تفسير البرهان والعياشي من أخبار تذكر أنّ مراد بعض الآيات هم أهل البيت، على اعتبار أنّهم أجلى وأعلى مصاديق الآية، لا أنّهم التفسير الأوحد والقطعي لها.
وبالتالي فثمّة ثلاثة أمور في غاية الأهمية لا بدّ من إيضاحهن دائماً وفي مقدّمة كل تفسير، وبالضرورة لا بدَّ أن يتحوّلن إلى قناعة راسخة عند المتلقّي (قارئ التفاسير):
1 - أنّ التفاسير أقرب إلى مفهوم الموسوعات التأويلية.
وما يرد فيها ليس هو الرأي القطعيّ، ولا الكلام النهائيّ الذي لا قول بعده، بل هو مجرّد عرض لوجهات نظر مختلفة واجتهادات شخصية في فهم النصّ القرآني. ولا تتمّ المفاضلة بين رأي وآخر اعتماداً على السند أو قداسة صاحب الرأي، بل بقدر ما يتمتّع به الرأي من مرجّحات منطقية.
2 - إنَّ ما يرد في التفاسير ليس هو ما يقوله القرآن، أو ما يريده الله! بل هو فهم المفسّر، وليس بمستبعدٍ أن يكون هذا الفهم مخالفاً لمراد الله والقرآن!.
3 -  للقارئ أن يستبعد أو يستقرب من الآراء المذكورة في التفاسير ما هو أنسب لمنظومته الفكرية وأليق بزمانه المعاصر، وفقاً لمعايير عقلية ومنطقية.
وهذا الفهم الجديد، يفضي بنا إلى تقرير بعض المتبنّيات المهمة بشأن التفاسير الإسلامية كافّة:
1 - يحدث أنَّ التفاسير تعقّد الفهم النصيّ أكثر ما تبيّنه وتكشف معناه.
2 - إخضاع الآراء الواردة في التفاسير إلى البحث العلمي والمناقشات المنطقية لترجيح الأنسب.
3 - إنّ التفاسير الإسلامية وضعت بعد عدة قرون من ترسُّخ الفكر الإسلامي، وبالتالي فقد انعكست مسبّقات المفسّر الايدلوجية وقَبلياته الثقافية الإسلامية على فهم النص القرآني، وأحياناً اضطرّته إلى ليّ النصّ ليتوافق مع معتقده وإيمانه الشخصيّ، وأيضاً نتج عن ذلك غفلته عن أبسط الفهوم الموضوعية والمعاني اللغوية.
4 - نتج عن  النقطة الثالثة، كذلك، أنّ التفاسير تعامل اللفظ القرآني كمصطلح شرعيّ إسلاميّ، متناسيةً معناه اللغوي الأصليّ المجرّد قبل النقل الاصطلاحيّ، كما هو الحال مع الصلاة والسجود مثلاً، وقد أحدث هذا الخلط مشاكل في الفهم والاعتقاد لم تحُلَّ إلى الآن، كما في قصة سجود الملائكة لآدم، مثلاً.
5 - تتعامل التفاسير مع القرآن وكأنّه كتاب نزل موحّداً مستقلاً، وليس آيات منجّمةً على مدى 23 سنة، آخرها نزل قبيل وفاة النبيّ بفترة وجيزة. وهذا الفهم الخاطئ انعكس على رؤية القرآن كمعجزة بوصفه كتاباً نزل على النبيّ ليتحدّى به مشركي قريش ممّن لم يؤمنوا بنبوته. فضلاً عن فهم معاني تسمياته: الكتاب، القرآن، الذكر، الفرقان، وما إلى ذلك. ويستدعي هذا الفهم، أيضاً، إعادة قراءة آيات النصّ القرآنيّ والبحث عن معانيها الحقيقية بغية الوصول إلى مراد الله المقصود، وفقاً لمنهج جديد نسميه (القراءة الثانية للتنزيل الحكيم)، فإذا كانت القراءة الأولى هي التلاوة التعبدية، فإنّ القراءة الثانية هي قراءة التدبّر والتفكّر والتأمُّل وفكّ الأقفال عن القلوب.  والقراءة الثانية لها منهجية تستند إلى خمسة مبادئ:
1 - التعبير القرآني قصديُّ الدلالة: لفظاً وتركيباً وترتيباً.
2 - لا ترادف في ألفاظ القرآن الكريم.
3 - لا زيادة ولا نقصان (حذف) في ألفاظ القرآن الكريم.
4 - لفهم قصدية التعبير القرآنيّ يُرجع إلى المعنى الأصليّ لكلّ لفظ، ولا يُرجع إلى المعاني الاصطلاحية إلّا مع القرينة.
5 - بلاغة القرآن تعني أنّه أقصر تعبير تسمح به اللغة ــــ إطلاقاً ـــ لبيان الحقيقة المطلقة.  وهو ــــــ أي هذا المنهج ــــــ ليس من التفسير بالرأي في شيء، بل هو منهج قويم لإنتاج فهم صحيح للنصّ القرآني، ولا يعارضه إلّا سلفيو السُّنة وأخباريو الشِّيعة؛ لأنّ كليهما جامدان على الأخبار المأثورة.. ثمّة تنظير إجرائيّ لهذا المنهج، ربّما تسمح الأيّام القادمة بطرحه.