حبيب ظاهر حبيب
تتجلى كينونة العرض المسرحيّ بوجود ثلاثة عناصر أساسية، هي على التوالي: (الفنانين + الفكرة + الجمهور) فإذا ما توافرت هذه العناصر يتحقق العرض، ويمكن الاستغناء نسبيا عن كل العناصر الأخرى التي تتفاوت أهميّة وجودها وفعاليتها بحسب رؤية الإخراج وإمكانيات الإنتاج.
ينطلق مسرح الشارع من وجود عنصرين من العناصر الثلاثة، أما عنصر الجمهور فلا ينتظر أن يأتي إليه، بل تذهب مجموعة العرض (الفنانين والفكرة) إلى أماكن التجمعات (الأسواق - الساحات - الشوارع) وهذا هو الذي عملت عليه فرقة (كويا) من مدينة كويسنجق - اربيل عندما قدمت مسرحيَّة (رسائل البحر) أداء (هونر محي طاهر - دكتور كيفي أحمد عبدالقادر - فريدون حمد أمين) في مهرجان بغداد لمسرح الشارع، قدم العرض في شارع ابي نؤاس، وبعد أيام تم تقديم العرض نفسه في مهرجان كركوك لمسرح الشارع في مجمع (بوليفارد) للتسوق.
وقد شهد العرض إصغاء وتركيزا وتفاعلا من قبل الجمهور، الذي شاهد العرض وقوفا لخمس عشرة دقيقة تقريبا، وفي درجة حرارة منخفضة نسبيا، وفي هذا دلالة على أهمية الفكرة وحيوية أسلوب هذا العرض.
بعد أن أحاط الجمهور بمساحة التمثيل، بدأ العرض مع الموسيقى، دخول اثنين من الصيادين، يسيران بحركة إيقاعية، يحملان أدوات الصيد (دلو وسنارة) ومفارقات كوميدية بسبب صعوبة تفاهم الشخصيتين، فهما يسيران، يصطدمان ببعضهما، وعندما وجدوا شيئا مهما في حوض النافورة أحدهما يطلب الصمت والآخر يصدر ضجيجا، أحدهما يجد صعوبة وشقاء وعناء لفتح الكرسي المحمول لغرض الجلوس والآخر يأتي إليه ويفتح الكرسي ببساطة وسهولة، وعندما ينوي الجلوس على الكرسي يسحبه الآخر من تحته فيسقط أرضًا، وحالما يقشر موزة ليأكلها يأتي صاحبه ويأخذها منه فجأة ليعطيه قطعة صغيرة منها ويأكل هو الباقي، وهكذا تستمر المفارقات.
إنهما صيادان/ شخصيتان تم طلائها بلون ذهبي من أعلى الرأس وحتى الحذاء، انهما صورة جمالية للصيادين جميعا، يبدأ الصيد بواسطة السنارة، ولكنهما يتركان الصيد، ويسحبون الشيء المهم وهو شبكة صيد، لا يستطيعان سحبها من الماء بمفردهما، تتم دعوة اثنين من الجمهور للمساعدة في سحب الشبكة، المفاجئة هنا هي أن ما موجود في الشبكة ليس سمكًا -كما هو متوقع- بل علب مشروبات غازية وقناني ماء فارغة وأحذية تالفة وقطع بلاستيكية وبعض الكائنات البحريّة المشوهة بسبب ما ابتلعته من نفايات.
ثمة تركيز واضح على وجود النفايات في المياه مما يقتل الكائنات البحريَّة ويجعل المياه ملوثة، لم يقل الممثلون كلمة واحدة ولكنهم أوصلوا رسالة بليغة.
لعبت الموسيقى دورا مهما في عرض (رسائل البحر) الصامت، إذ ملأت الجانب السمعي في التعبير عن مختلف الحالات الشعوريّة، ففي بداية العرض (الابتهاج بعملية الصيد) ساد المرح والإيقاع السريع، وبعد اكتشاف النفايات والتلوث حلت موسيقى المشاعر الحزينة ذات الإيقاع البطيء.
في النهاية يرفع المؤدون صور أسماك مشوهة ولافتات تقول: (تعهدوا لنا بأنكم لن ترموا نفاياتكم في البحر) ويطلبون من الجمهور حمل اللافتات وأن يقطعوا عهدا ووعدا بأن لا يرموا نفايات في البحر، برفع أيديهم للقسم على ذلك، فيستجيب معظم الجمهور، ويتعاونون على رفع النفايات ووضعها بأكياس خاصة.
لم ينطق المؤدون بكلمة واحدة، فقد اعتمد العرض على لغة الايماءة والاشارة والحركة وتوظيف قطع الاكسسوار ومشاركة الجمهور في إيصال فكرة حاضرة في المحيط المحلي وفي عموم العالم.
ويمكن القول بأن هذا العرض ينطوي على امكانية التقديم في مدن ودول كثيرة وأوقات مختلفة، لأنه يمتلك لغة تواصلية عالميّة، ولأن محمولهُ الفكري حائز على اهتمام جمعي ويتضمن رسالة توعية مجتمعية هامة، وهكذا هي عروض مسرح الشارع -عادة- تتضمن فكرة محورية واحدة يشتغل عليها المؤدون دون تشعبات، و يستثمرون الوقت بالتكثيف لمراعاة صعوبة وقوف الجمهور لفترة طويلة، وخشية تسرب الملل ، فضلا عن حسابات ظروف الطقس.
عنوان العرض هو (رسائل البحر) وليس رسالة إنسان، العرض كله رسالة من البحر إلى الإنسان في كل زمان ومكان مفادها: لا تلوثوا المياه - والمقصود جميع أنواع المياه- ولا تقتلوا الكائنات المائية واعملوا على المحافظة عليها.
استند العرض إلى فكرة موجودة ومتداولة كثيرا في العديد من المجتمعات، وتعمل عليها الحكومات والمنظمات بالندوات والمؤتمرات والملصقات الدعائية، وجميعها صيغ وطروحات مباشرة، أما العرض المسرحي (رسائل البحر) فقد عمل على تأطير الفكرة بجماليات جعلته جاذبا ومتفردا، دعت الجمهور المحتشد للتواصل وعدم ترك العرض.
من جماليات مسرح الشارع التي تجسدت في هذا العرض:
1 - الفكرة تعني المتفرج وتستهويه.
2 - وحدة الحدث وعدم وجود تفرعات.
3 - الوحدة الفنيّة المحكمة الإيقاع (الانسجام والتوازن بين مكونات العمل الفني)
4 - عمل العرض على توظيف المكان ففي عرض بغداد تم استثمار شاطئ دجلة للصيد وسحب الشبكة، وفي عرض كركوك تم استثمار حوض النافورة في مجمع التسوق للغرض نفسه.
5 - وجود القفشات الكوميدية.
مسرحيّة صممت لتكون ضمن مفهوم مسرح الشارع بالتصدي لظاهرة حاضرة في البيئة المحليَّة والدوليَّة، وتمت معالجتها الاخراجية بإيقاع سريع، وليست مسرحيّة تقليدية لا تمت للوضع المعاش بصلة، تمت شورعتها قسرا.