عن المترجم.. وسرعة الأحكام
ياسين طه حافظ
لا أظن شاعراً مهماً لم يدرس أدب بلاده دراسة ويمتلك صورة عامة عن موضوعات ذلك الأدب ومستوى ونوع الاساليب. النصوص القديمة امتلكتها الكتب. وآراء الدارسين مدونة وواضح الانطباع العام عنها. أما الأدباء الجدد، أبناء زمنهم، فالقراءة غذاء يومي، قراءة أدب ونتاج كتاب أمتهم وما يترجم من آداب العالم، أو يقرأه بلغته أن أمكن ذلك. تلكم ضرورات أولى.. ما أعرفه عن الشعراء والكتاب الاوربيين البارزين أن معرفة لغة ثانية جزء من مكوناتهم الثقافية، وطبيعي جداً أن يعرف الانجليزي الفرنسية ويعرف الفرنسي الانجليزية أو الالمانية، وبعض يعرفون الايطالية. أما معرفة اللغة اللاتينية فتكاد تكون أساساً لدرسهم الأدبي مثلما هي شرط أكاديمي أحيانا للدراسات العليا، الأدبيّة والفلسفيّة، وقد تتعدى إلى دراسة التاريخ. فلا ترى دارساً يقول عن ييتس مثلا أو بايرون أو اودن أو هيوز أو روبرت لويل كان يعرف الفرنسيّة. هذا قول ــــــ فج لأنه طبيعي جداً ومعروف أو تحصيل حاصل.
ما أردت ايضاحه، لكي لا نطيل، أن من يعرف الانجليزية يقرأ بالانجليزية آداب اللغات الأخرى، يقرأ الادب الروسي والايطالي والياباني والصيني والكثير الجيد من الافريقي، والمختار المترجم من بقية آداب العالم. ومن يعرف الروسية لا يفتقد كاتباً أو شاعراً معروفاً من الانجليز أو الفرنسيين أو الالمان: حركة الترجمة واسعة وتجد في الروسية الأدب الانجلوساكسوني القديم مثلما تجد الرومانسيين، وتجد شكسبير وكونراد وديكنز وسواهم كثيرين. شعراء وروائيين. أيضاً تقرا في الروسية المهم من الأدب الإيطالي، واسماء البارزين في آداب العالم الأخرى. بعض من أصدقائنا حين يكتب له حكم ضيق، عمن يعرف الانجليزية، هو متأثر بالأدب الانجليزي! يا سادة، هو يقرأ بالانجليزية أفضل ما في آداب العالم. ليس صعباً أن يقرأ الأدب الايطالي والفرنسي والروسي والالماني.. فضلاً عن الانجليزي والعربي في مثل هذا القول سرعة، وحتى سذاجة في فهم عملية التثقيف ومصادر الثقافة.
ثقافة الشاعر ليست من الشعر وحده، هي من الرواية والسينما ومن السّيرة والنقد، كما من تاريخ الإنسانيّة ومن الفلسفة ومن أفكار عصره وفنونه، ومن معايشة الحياة والأجواء حوله. هي الحياة الثقافيّة والأديب في الخضم الثقافيّ، شاعراً كان أو كاتباً، هو نتاج مكوناته الثقافية كلها، أدباً وفنون وفلسفات.
والأديب، شاعراً أو كاتباً قد يكون صحفياً وقد يكون تدريسياً، وقد يكون مترجماً أو طبيباً أو رجل قانون، أو يكون لسانياً متخصصاً باللغة وعلومها. في عملي، في مجلة الثقافة الاجنبية، وفي تلك السنوات الصعبة التي ابتدأت عام 1980، توجب عليّ أحياناً ترجمة ما يتطلبه العمل، وما يفرضه الظرف. نحن نعمل في مجلة تابعة للدولة، والدولة في حرب، ويجب أن نؤدي عملنا ما دمنا موظفين فيها وهم يريدون أدب حرب، في الأقل صفحات من المجلة لذلك.
هذا لا يعني أني اعجبت بهذا الشاعر البسيط، أو ذلك حين ترجمت له، هذا ما توافر لنا حينذاك، من مجلة متاحةٍ أو كتاب. بعض الشعراء ليس مهماً ولا قيمة نقدية له، ترجمنا له! لم يكن مهماً ولكن ذلك هو المتيسر لنا، وهو عملنا الوظيفي ونحن يجب أن نعيش ويجب في تلك الظروف، أن نبعد عنا صفةً لا تريح.
يأتي كاتب نقدٍ بطِر، فيقول هو متأثر بالشاعر الفلاني «بدليل أنه ترجم له!» أي دليل عظيم هذا، أنا اصلاً لا احترم شعره، هو ليس صاحب إتجاه شعري، وهو الأخير بين زملائه أو مجموعته الاربعة: أوين وادوارد ثوماس وسيجفريد سامسون وروبرت بروك (من شعراء الحرب العالمية الأولى). الأخير من عائلة ارستقراطية بعضهم يحكمون بريطانيا وكان وسيماً جداً فكان لمقتله في الحرب، بدء شبابه، صدى في الصحافة وبين الناس وانتهى كل شيء.. بعد سنتين نشرت «القمم العالية» فيها حوالي العشرين شاعراً ألمان وجيك وروس وصينيين وفرنسيين وايطاليين وليس بينهم غير أربعة انجليز!
الترجمة حِرفة، عمل كأي عمل.. الانطباعات السريعة والأقوال الجاهزة لا تليق بدارس، وليس سهلاً أبداً القول فلان متأثر بفلان. الدرس المقارن درس صعب ويحتاج إلى جهد وطول صبر وإطلاع دقيق على دواووين الشاعر وحواراته وموضوعاته الأثيرة قبل أي حكم. أسال الجاهل والعالم: شاعر هذه دواوينه وموضوعات قصائده:
عبد الله والدرويش
قصائد حب على جدار آشوري
مخاطبات الدرويش البغدادي
ديوان فاطمة،
وقصائده: تينة نهر الشيخ، زقاق بغدادي
طريق بهرز، غينة العوف
ساحة 55 وكوخ شهاب
امرأة من ميسان، طيور الكحلاء
شجرة عراقية، صوت من بابل، الدخول إلى البصرة
الحاج صادق بصلي
بعقوبة
قصيدة عبر حياة ومقامات محمد القابنجي
أهي محلية عراقية، أم تأثر بالأدب الانجليزي؟ الجواب المنطقي السليم هو غارق في محلية عراقية، وهو بريدها ويعمل لأبرازها. إنه يعمل قاصداً هذا! ومن توالي قصائده حتى «قصائد المستنقع والوردة الأربع» الاخيرة هي عن محنتنا في واقعنا العراقي والثمن الذي ندفعه للوصول إلى الوردة أو إلى ما نريد.. الكتابة تفترض أن نحترم من نكتب عنه، ونلم بمحمل كتاباته. ولا تحيل كل جديد منه لسواه! أنا لا أشكك بحرص الكاتب، ولا حسن قصده، ولكنها السرعة في الأحكام وترداد الأقوال الجاهزة.
بقيت لي ملاحظة، عن فهم الآخرين للترجمة، ترجمة الكتب ليست دائماً باختيار المترجم. دور النشر تتفق مع مؤلف وتشتري حقوق ترجمة أعماله من ناشره، كل كتبه أو بعضها.
دار النشر هذه تتصل بالمترجمين وتعرض على هذا كتاباً، وعلى ذاك كتاباً، يقبل بترجمته أو لا يقبل فيعتذر، حسب تفرغه أو قرب الموضوع من اهتمامه أو صعوبة اسلوبه. وللعلم ترجمة السرد أسهل من ترجمة النقد والفلسفة، وترجمة هذا الروائي أسهل من ذاك. بعض الأساليب متعبة، وهي أيسر على المتخصص بموضوعها صعبة على سواه.
وبعضها يستوجب مراجعات فتستغرق وقتاً أكثر. عموماً نحن نتحدث عن الترجمة حِرفة، ولسنا بشأن الترجمة هواية. اولاء الترجمة بالنسبة لهم زهو شخصي ومتعة. حديثنا عن الترجمة عملاً، مهنة للعيش! المترجمون الأدباء، الكتاب عموماً، ليسوا ملائكة. هم يجب أن يعيشوا مثل الناس.
ولكي يعيشوا يجب أن يكسبوا فيرتضون بهذا العمل أو ذاك. شعراء كبار، كتاب كبار في العالم مارسوا العمل الصحفي أو الترجمة أو مراجعات الكتب.. هو عملنا الثقافي وهي أجواؤنا الثقافية، وهو هذا عملنا ما دمنا نريد خبزاً نظيفاً.. أما أن هذا الشاعر أو ذاك الكاتب متأثر بفلان بدليل أنه ترجم له، فهذا دليل معبب حقاً وحكم مفرط بسهولته. ولو أطلع على قائمة أعماله لغير رأيه بالتأكيد. فهو لا يقل عنا حباً للحقيقة..
بقيت لي ملاحظة قد لا ينتبه لها من لا يبدع أو ينتج فناً، شعراً كان أو رسماً، رواية أو نحتاً ، موسيقى أو إخراجاً سينمائياً. ليس هناك من هو أكثر من الفنان الجاد حرصاً على أن يكون له أسلوبه وأفكاره وتميزه!هو يبذل كل جهد لكي يحقق شخصيته الفنية أو الأدبية، وأول ما يعتز به هو أن يكون له أسلوبه وموضوعاته الفكرية والإنسانية. أما تبسيط الأمور والتظاهر بسعة الاطلاع، واطلاق الأحكام هذا متأثر بالأدب الانجليزي وذاك بغيره، ومن قراءة بضع قصائد صادفته في صحيفة يومية، فهذا خطأ بحق الناس وبالحقيقة الادبية. الدرس المقارن، كما ذكرت، أصعب الدروس وأوسعها وأكثرها تفرعاً.
السرعة مؤذية لأفضل النقاد، كما هي مؤذية لأفضل الكتّاب! التروي والالمام الكافي، ومراجعة كتب أو أعمال من نكتب عنهم، عمل كهذا يجعل الاحكام سليمة ويحقق الغرض منها. حسن النية وسلامة القصد، متوافران ولا نشك بهما ابداً. ومتابعة كتابات الاخرين ونتاجهم تستوجب الشكر والاحترام، لكن لا يكن التبرع بحصيلة جهد الآخرين وتعبهم سنين طويلة لتطوير فنونهم، وامتلاك اتجاههم في الكتابة وموضوعاتهم، سهلاً وسريعاً. ولا تكن الاسماء الاجنبية في الكتابة للزهو. هي ليست حلياً لتزيين السطور.
ما يستحق اكبارنا ويضيف إلى معرفتنا معرفة، هي الكتابة المتخصصة، والمستندة إلى الالمام الكافي واستخلاص ما ينفع تطور الأدب والثقافة في نتاج الكاتب اسلوبا ومضامين.
وفي كل حال، تظل الحقيقة هي الغاية الأولى للناقد والكاتب، للمفكر ورجل التاريخ، للسياسي ورجل القانون. وهذا ما نسعى إليه جميعاً، أو ما نتمنى أن يسعى الجميع إليه. ويبقى الاحترام لازماً لمن يجهد في متابعة الكتابات ويشير إلى ما يرآه جديداً أو نافعاً، واختتم فاقول: محبة النص أفضل شرط للكتابة عنه.
ليس من الطبيعي أن أردّ على أحد: كتبَ ما كتب، ولكنها ملاحظات عامة في الثقافة أردت الإشارة لها لايضاج ما ليس واضحاً أو للتذكير بما فاتنا والخضمّ كبير.