عمان: يعرب السالم
غادر بغداد مرغما عام 1994 متجها إلى عمان، وعاد عام 2003 فوجدها تحت سلطة دبابات لم يحتمل رؤيتها فعاد إلى أدراجه، بحثا عن مساحة بوح آمنة في عمان. يقول السوداني عن نفسه «أراد أبي أن أكون طبيباً، وفي العام 1984 تخرجت في معهد النفط فأبيضت عينا أبي من الحزن، وتململ جسده، حتى كاد يفتح باب مدفنه، وفي العام 1990 ،عام دقّ طابوقة الأساس، لموت بلاد ما بين القهرين - ضاقت بي الدنيا بما وسعت، فاشتريت ماكنة لإنتاج الشاميّة الساخنة «البوشار» فكانت طقطقت حبّات الذرة النافرة في قدرها الحار، مثل موسيقى رحيمة، تسلطن على باب رزق حلال.. وفي خريف العام 1994 هبطت وسط عمان ليلة واحدة ببطن فندق الملك غازي وبعدها تناسلت الليالي حتى الآن.
* علي السوداني الكاتب الساخر هل أعطتك القصة ما تريد أم أخذت منك؟
-لست ميالاً لتوصيفي بالكاتب الساخر، وأن حبسي في جدران هذا المصطلح الذي قد يتحول تالياً إلى جنس أدبيّ يصعب الفكاك منه. لنسميها السخرية المُرّة أو الدعابة السوداء أو الكتابة الغاضبة التي تحمل على كتفيها وجعاً وحزناً إن أنزلته فوق جبل لصيّره تراباً ورماداً.
*تمكنت من خلال عوالمك القصصيّة أن تنحت لغتك الخاصة في القص، ومزجت العامي بالفصيح واللغة الصحفيّة بالسّرد؟
- المزج بين الفصيح الصافي والشعبي الدارج فهو قليل، وقد تسقط بعض العاميات وتلوذ أحياناً بثنيات نصوصي وهذا أمر حقيقي، لكن بعض القارئين من العامة والنخبة رأوا في ذلك إفراطاً وكثرة بعد أن اشتبهت عليهم المفردة العامية التي لا جذر لها بالفصيح المعروف، وألتبست تفاسيرهم حول مفردات استعملها وقد حسبوها على خان الدارج من القول، والحق هو أنها أو جلها عبارة عن منحوتات لغويّة صحيحة قائمة ببطن الصحاح أو القديم>
وقد هجرتها الناس حتى إذا جيء على رسمها وذكرها في الكتابة الحديثة، ابتسموا وارتاحوا وقالوا إن الرجل قد باعنا بعض كلمات مستلة من مصطبة الشارع ولغته
الممكنة .
* غاب عن أغلب النقاد بأن ينظروا بإمعان لتجربتك السرديّة الثّرة، بل تكاد تكون متفردة، ما هو رأيك؟
- معك تماماً، بأن تجربتي القصصيّة وما جاورها من فنون كتابية أخرى لم تأخذ حقها المشروع والعادل من الكتابة النقدية، لأن مائدة النقد الآن غاصة بالأخوانيات المبتذلة والمجاملات السائبة وجبر خواطر الكتاب الجدد الأغضاض، والأهم من ذلك هو أن الناقد صار يدمغ نصك الأدبيّ الخالص بنصك الجرائدي الذي فيه هتاف عال ضد الغزاة والقتلة والفاسدين، حتى صار النقاد قبائل تكتب بطريقة تشبه جداً ما يكتبه شعراء ساجدون على عتبة السلطان، حيث الطعام الكثير والشراب الوفير وصرر الذهب والدينار.
نحن الآن نعيش فترة مظلمة حقاً ومن أعظم ضحاياها هو الأدب والفنون الجميلة في عالمنا العربي عموماً، حيث مافيا الأدب والفن صارت معلنة ولا تستحي من جرائمها، وهي التي تقرر إضاءة الوجوه المختارة ومنح الجائزة والدعوات إلى مهرجانات السهر واللذة والباقيات!!.
* كيف ينظر السوداني للقصة، هل لها طقس كتابي خاص أم هي استحضارات حياتية ممتزجة بهاجس الإبداع السردي؟
-القصة القصيرة هي جنس كتابي معروف واسمها يدل عليها وآخر تحولاتها وتمظهراتها هي القصة القصيرة جداً أو المقصوصة بالغة القصر، والتي تتحقق بواحد من شروطها المشهورة الذي يوصي باستهلاك كمية قليلة جداً من طين اللغة، لبناء النص وتحقيق فنيّة الفعل.
ثمة فرق عظيم بين الأقصوصة الصغيرة الصعبة وبين الطرفة اليومية السهلة التي تعتمد المفارقة البائسة، وهذا النوع من الخلط البائس لم يعد مقصوراً على القصاصين، بل كان متوفراً أصلاً بجعب الشعراء، حيث يقرأ واحدهم مفارقاته الباهتة فتصفق الناس الكسلانة وتضحك، وربما تبكي فتتحول الصالة إلى نقيع دمع عظيم !!،
* حدثنا عن أقرب مجموعة قصصية إليك، وكيف تختار عناوين القصص؟
- كل مجاميعي أقرب إلى قلبي من حبل الوريد وأخوته، لكن الأولى الصغيرة التي حجمها بكف وأسمها “المدفن المائي” تبقى عزيزة بمعنى من المعاني التائهة، فهي لذة الإصدار الأول وبصمة الإهداءات الفخمة التي تجعل صاحبها مثل طاووس رائع، فضلاً عن أنها الكتاب الوحيد الذي صدر لي ببغداد العزيزة قبل الهجيج منها عام 1994.
* خلقت مظهرك الخاص بشعرك الكث وأصبح الجميع ينادونك بعلوكي ما السر؟
-تناديني الناس تحت مسمى منحوت حميم بديع هو “علّوكي” كما جاء بذيل سؤالك يا صاحب، وهذا أمر ولد من بركات حوائط التواصل والتناطح الاجتماعي.
طبعاً أنا سعيد بهذا الدلال وأشم فيه رائحة طفولة كانت بائسة، لكنني استعيدها الآن كما لو أنها سمفونية أم جميلة تتصادى بباحة حوش عتيق !!.
* ماذا يريد علي السوداني من غربته لماذا لا يعود لبغداد بين محبيه وعشاقه؟
- لن أعود إلى بغداد لأنني أصلاً وفصلاً وروحاً لم أغادرها أو أهجرها. لقد دسستها مرة بحقيبتي الهاربة ولما كشفها السونار أو خشم الشرطي، زرعتها بمكان أمين في قلبي.
* ماهي قصتك مع مقهى “السنترال” ومن جايلك فيها؟
- مقهى السنترال بعمان هي البديل المتاح لمقهى حسن عجمي ببغداد. هما تتشابهان حتى في المصير والمآل. الآن هجرها الصحب ولم يبق فيها سوى أصواتهم التي تكاد تتصادى بوضوح شديد يعزف على سلم الحنين الفتاك. أدور على الكراسي فأجد خيالات وضجيج جان دمو وحسب الشيخ جعفر وعبد الستار ناصر ومجلس “الطاولي والدومنة”، والحيرة أمام فاتورة الحانة الجميلة المشمورة في الجوار.
من أقوال “علوكي” المؤثرة التي زادت من صحراء قلبه في غربته القاحلة إلا من القصص “مختتم العام 2002 ماتت أمي، فاتسع مشهد الغربة والحنين”.
يبقى أن نشير إلى أن القاص علي السوداني كاتب غزير ومؤثر في مجايليه وفي الساحة الإبداعية العراقية والعربية ورغم قساوة الحياة عليه إلا أنّه أصدر عام 1993 “المدفن المائي” و “الرجل النازل” عام 1996، و “بوككَوو وموككو” عام 1997، ومجموعة مشتركة مع القاص حسن دعبل “ما تيسر له” عام 2000، كما حظرت الرقابة في عمان مجموعته “خمسون حانة وحانة” عام 2003. في عام 2007 أصدر السوداني المجلد الأول من كتاب “مكاتيب عراقية من سفر الضحك والوجع”، وأعقبه في 2009، بالمجلد الثاني من كتاب “مكاتيب عراقية من سفر الضحك والوجع” ثم “حانة الشرق السعيد” عام 2010. وأصدر عام 2013 المجلد الثالث من كتاب “مكاتيب عراقية من سفر الضحك والوجع”. وفي عام 2015 أصدر “باص أبي تقوده مارلين مونرو”. وآخر أعماله القصصية “ قطة تعزف على طاولة الدرويش” عام 2018 و أعاد طباعتها في 2020.
يستمر سلطان السخريّة المُرّة في بوحه المكلوم لينهي الحوار بقوله “في وشل السنة 2062 سأخرج من دفتر الحياة”.