د. كريم شغيدل
قد تكون الجملة الإسنادية بصيغة المضاف والمضاف إليه هي الأكثر شيوعاً في صياغة عنوانات القصائد لقربها من التركيبة الاستعارية أوالكنائية للجملة الشعرية، وإن جاءت بعض العنوانات خالية من أي انزياح تركيبي، فبعضها يميل للموضوعية، لكن هناك توظيف استعاري أو كنائي شائع في جملة العنوان من هذا النمط.
فعنوان مثل (منزل الأقنان)، وهو عنوان لقصيدة أردفه الشاعر بعلامة مكانية ليصبح منزل الأقنان في جيكور يبدو في ظاهره جملة نثرية تدل مباشرة على منزل يسكنه عدد من الأقنان (العبيد) لكن في الواقع هو يشير إلى منزل يسكنه عدد من الفلاحين الأجراء وليسوا أقناناً بالمفهوم الاجتماعي. وهذا يعني أن هناك قصدية في صياغة محمول أيديولوجي، فجاءت مفردة (أقنان) كناية عن أولئك الأشخاص الذين لم يستعبدهم أحد، إنما رؤية الشاعر أن يراهم عبيداً من خلال عملهم لدى مالك الأرض، وهذا يحيل أيديولوجياً إلى مفهوم الطبقية والإقطاع، بينما يذهب في عنوان آخر لواحدة من أشهر مجموعاته وقصائده (أنشودة المطر) إلى أبعد من ذلك، إذ يتحول صوت المطر إلى أنشودة ترددها الطبيعة، باستعارة صوتية يجسدها تكرار مفردة (مطر) في متن القصيدة، يحيل العنوان الأول إلى مرجعيتين متقاربتين في الجذور، إذ تحيل مفردة (منزل) إلى مرجعية مكانية اجتماعية ذات بعد اقتصادي، وتحيل مفردة (الأقنان) إلى مرجعية طبقية اجتماعية/ اقتصادية مشتركة. هذه الكناية ذات مدلول أيديولوجي مباشر، بينما تحيل مفردة (أنشودة) إلى مرجعية ثقافية، وتحيل مفردة (المطر) إلى مرجعية طبيعية، وهذه الاستعارة على ما يبدو قد أخرجت دلالة (المطر) من المعنى القرآني الذي اقترن بالغضب بعكس الماء أو الغيث الذي اقترن بالنماء، وذلك من خلال اقترانها بدلالة (الأنشودة) التي تحيل إلى الفرح والاحتفاء أو الاحتفال، بحيث تصبح دلالة المطر مماثلة للاستعمال اليومي التداولي، فيكون (المطر) هنا مبعث الخصب والنماء، على الرغم من أن متن النص قرن صوت المطر بالحزن، وهو عنوان ذو مدلول غنائي شعري خالص ينسجم مع النزعة الرؤيوية التي وسمت شعر السياب في تلك المرحلة الناضجة، وللسياب عنوانات كثيرة بهذا النمط في مجموعته (قيثارة الريح) مثل: ثورة الأهلة، وشاعر الروح، وشاعر الشهوة وغيرها الكثير. ويعد هذا النمط الأكثر شيوعاً من ناحية التركيب اللغوي، لكونه يتسم بالاختزال والقابلية على صناعة علاقات لغوية مبتكرة وكنايات شعرية تحقق انزياحاً على وفق مفاهيم الشعرية، من خلال ما تثيره بعض الانزياحات من أسئلة محتملة، ومساحة للتأويل الدلالي، فجملة مثل (منزل الأقنان) لا تمتلك قصدية إشهارية بكونها عنواناً لكتاب شعري فحسب، وإنما هي جملة مولدة للأسئلة وقابلة للتأويل والرمزية، وأن المعنى العميق للكلمة هو الذي حدد قصدية الشاعر في الاختيار، ليتحقق من خلاله البعد الإشهاري، فالسياق الثقافي الذي ولد في ظله النص، كان سياقاً مشحوناً بالنزعة الأيديولوجية لأفكار اليسار وشيوع مصطلحات مثل: الطبقات الكادحة، الاشتراكية، الرأسمالية، الإقطاع.. إلخ.. وعنوان كهذا سيشكل مصدر جذب سواء للطبقة الوسطى المتعلمة أو المؤدلجة أم لعموم القراء، كذلك الحال مع (أنشودة المطر) الذي لا يخلو من محمول أيديولوجي وإن ترجح القراءات المختلفة محموله الرومانسي، فقد يرمز المطر لمفهوم الثورة، ولا يمكن الجزم بأن العنوان يأتي عفو الخاطر، هناك قصدية واضحة، لا سيما في العنوانات التي يختارها الشعراء عتبات لمجاميعهم الشعرية، كما هناك قصدية إشهارية أشبه بالإعلان يراد منها جذب القارئ وإثارة رغبته في القراءة وتحفيزه عاطفياً أو ثقافياً أو أيديولوجياً من خلال
العنوان.
غلب هذا النمط من العنوانات على المجموعات الشعرية لنازك الملائكة، مثل: عاشقة الليل، وقرارة الموجة، وشجرة القمر، ونجد عند محمد الماغوط في كتابه الشعري (شرق عدن/ غرب الله..) العديد من القصائد جاءت عنواناتها بهذا النمط مثل: كرسي الاعتراف، أرق الغيوم، أغنية المهد، إعدام بعوضة، مشروع خيانة، تبعات الوفاء، دخان الخرائط، سفر برلك، أبجدية الضباب وغيرها. وعلى هذا المنوال تأتي عنوانات قصائد سنية صالح: ذَكَرُ الورد، وحبر الإعدام (عنوانان لمجموعتين شعريتين)، وقصائد مثل: سرير النهر، أحزان العصافير، جسد السماء، نشيد الأصوات وغيرها الكثير. ولخزعل الماجدي: مجموعة بعنوان (يقظة دلمون)، وأخرى بعنوان (عكازة رامبو)، وإذا ما حاولنا تحليل الدلالة لبعض العنوانات أعلاه فسنجد تبايناً في ما ذهبت إليه، فعنوان (عاشقة الليل) بإيحائه الرومانسي يفضي إلى كناية شعبية بسيطة عن السهر، وقد يسحبنا أكثر إلى دلالات مضمرة، إذ ماذا يعني أن تعشق شاعرة أو امرأة الليل؟ هل تقصد الخلوة؟ أم العزلة؟ أم الأرق الذي أدى للألفة مع الليل ومن ثم عشقه؟
أما قرارة الموجة فهو عنوان بني على كناية انتقالية من الكل إلى الجزء، فالمعنى القاموسي لكلمة (قرارة) هو العمق أو الغور، ويمكن إطلاقها على عمق البحر أو غوره، والموجة جزء متحرك لا قرارة له، لكن رؤية الشاعرة أن ترى عمقاً للموجة، لترسم صورة دلالية للموجة تختلف عن صورتها الطبيعية، فمن أين يأتي للموجة المتحركة التي تتبدد لحظة انطلاقها عمق أو غور؟
إذاً الموجة هنا كناية عن الذات التي تمر في خضم الحياة مثل موجة، لكن هذه الموجة/ الذات مختلفة، ليست كبقية الموجات، لها عمق كالبحر، وكلا الكلمتين المضاف والمضاف إليه تنتمي إلى الطبيعة، لكنها أسندت صفة الكل للجزء، ويأتي عنوان شجرة القمر بمفردتين من مرجعية واحدة أيضاً هي الطبيعة، لكن العلاقة الكنائية هنا قد اتسعت، فالمنطوق الظاهري يدل على خلق شجرة مجازية للقمر، ربما هي تأويل لشجرة وهمية ترسمها الظلال التي نراها حقيقة على صفحة القمر، وتحاول الشاعرة نازك الملائكة أن تخلق انزياحات تركيبية أو صورية في علاقات الإسناد بعضها ينطوي على غرائبية مباحة في الشعر، رغبة في إحداث الدهشة عند المتلقي لتحقق البعد الإشهاري.