حضور النّص بين الإبداع وفضاء الاكاديمية

ثقافة 2019/05/14
...

د. سامي علي جبار 
 
 
يعد النص رافداَ من روافد الشخصية ، وصانعا مهما للعلاقة بين الاداء في حقلي الابداع الادبي والثقافي والابداع الاكاديمي . وفي تراثنا العربي ان النص شكّل حلقة وصل في بناء الشخصية الادبية والثقافية ، فالشاعر كان يطلب ود الناقد ، والناقد يبحث عن النص الذي يغريه في حالتي القبول والرفض .
وبعد الاسلام كان علماء اللغة والنحو والبلاغة والمعجم والتفسير والنقد والمؤرخون ايضا سببا مهما في اشهار النص واختبار مافيه من قواعد ودلالة لتشكل خلود النص وصاحبه . وللنص سطوة في تشكل شخصية المبدع, وتناسل الصراع بين الابداعية والاتباعية وتحكم عالم اللغة والناقد في الحكم على شخصية المبدع من خلال نصه ، ويبرز التناقض احيانا في الاحكام ، وتتحكم الامزجة في التفضيل والمقارنة والموازنة .
نجد البحتري على سبيل المثال لا الحصر مفضلا عند الآمدي والمبِّرد ، بل ان المبرِّد كان صديقا للبحتري ، على ماعرف عن المبرد من نحويته وتشدده في القاعدة النحوية ، ونجد ابا تمام مرفوضا عند الآمدي بسبب الاحتكام الى القياس على النص القديم ، في حين فضله عضد الدولة على غيره من الشعراء ولذلك ادخل ابو علي الفارسي ( 377هـ) احد ابيات ابي تمام في كتابه ( الايضاح العضدي ) تقربا من عضد الدولة ، وكذلك فعل الزمخشري في تفسيره ( الكشاف ) حين ادخل احد ابيات ابي تمام في ابيات الاستشهاد وقال مقولته المشهوره ( أجعل ما يقوله بمنزلة مايرويه ) .
وموقف النقاد من شعر المتنبي واضح بين القبول والرفض ، متأرجحا بين النص وصاحبه . المواقف كثيرة كما يروى عن الاصمعي وابن الاعرابي وابن خالويه حتى نصل الى العصر الحديث فنجد المواقف نفسها من نصوص احمد شوقي والسياب و أدونيس وشعراء قصيدة النثر.
ان النص الابداعي حلقة وصل بين المبدع والمؤسسة الاكاديمية : يصنع المبدع نصه فيكون ذلك دليل حضوره الثقافي , وحين يشكل النص مادة للاكاديمي يتخطى شخصية المبدع الثقافية ليكتسب اشهارا متجاوزا حالة النخبة الى حالة الاشهار الجماهيري ، وتبرز هنا حالة الاكاديمي المثقف المبدع ، وحالة المثقف المبدع الاكاديمي. فصاحب النص هنا مبدع على مستوى النخبة ينتظر التقويم والتقييم ، وهو في ممارسته العمل الاكاديمي يشكل الضد من الفضاء الادبي الثقافي فهو هنا مقوَّم ومقيمِّ .
وقد تكول هذه الازدواجية مسؤولية مضاعفة ، فالحضور في الفضاء الابداعي ( نصا وشخصية ) يحمِّله مسؤولية الابداع بكل ماتعنيه الكلمة، وحضوره الاكاديمي يحمله مسؤولية حمل شروط الاكاديمية من العلمية : الضبط والموضوعية 
والدقة .
ولايمكن للأكاديمي المبدع عن ينشطر شطرين : شطرا في مؤسسة الادب والثقافة مثل اتحاد الادباء والمؤسسات الثقافية الاخرى , وشطرا في المؤسسة الاكاديمية حين يكون المبدع اكاديميا . 
فمن سلبيات الممارسة انك تجد للمبدع الاكاديمي حضورا خارج مؤسسته ,  ويمارس الاكاديمية بمعزل عن فضائه الابداعي . ولايمكن للمؤسسة الاكاديمية ان تتقوقع وتنكفئ على نفسها . فلا حضور في اوساط النشر خارج الجامعة , وفي الوقت نفسه نجد المجلات الاكاديمية تخشى الحضور في المكتبات ومنافسة الدوريات الثقافية والادبية .
كيف يمكن للأكاديمي ان يحصر عمله في المحاضرة ويخشى ان ينشر مقالا او دراسة في مجلة خارج اسوار الجامعة ؟! ينطبق ذلك على كل التخصصات العلمية والفنيه والانسانية ، وهنا نتحدث عن التخصصات الادبية والنقدية ، فهل يعقل ان تكون قراءة الشعر والقصة والرواية والنص المسرحي واي كتاب اخر من اجل المحاضرة والتعليم ؟ فإذا طًلب من المتخصص الكتابة في الصحيفة او المجلة يجد ذلك احراجا له واختبارا حقيقيا لجرأته في الكتابة والنشر . كم من المتخصصين في الادب واللغة يكتب خارج اطار المحاضرة والبحث الاكاديمي لاغراض الترقية !.
ولايشمل ذلك مجال الادب والنقد بل يتعداه الى تخصصات اللغة والنحو واللسانيات بصورة عامة. ومن هنا نجد ان التفاعل بين الفضاءين الابداعي والاكاديمي ليس تفاعلا افتراضيا بل هو حقيقه لكن ثمة اسباباَ تمنعه من ان يكون واقعا وفعلا مجسدا على ارض الواقع .
وهنا نشير الى بعض اسماء المبدعين الاكاديمين او الاكاديميين المبدعين في العراق والوطن العربي الذين كان لهم حضورهم في الجامعة وخارجها في المنتديات الادبية والاوساط الثقافية من امثال الدكتور الشاعر علي احمد سعيد ( ادونيس ) ، والدكتور الناقد مالك المطلبي والدكتور الناقد جابر عصفور ، واللغوي الشاعر الدكتور محمد حسين ال ياسين والدكتور الناقد صلاح فضل والشاعرة نازك الملائكة والدكتور الناقد نجم عبد الله كاظم والروائي واللغوي والبلاغي الدكتور شكري المبخوت والروائي الدكتور علاء مشذوب ، وامثالهم كثر.
وكثير من الادباء من غير الاكاديميين من صنع عشرات الاكاديميين من خلال دراسة نصوصهم الابداعية ومنهم القاص محمد خضير و الروائي يوسف ادريس وعبد الخالق الركابي ولطفية الدليمي وميسلون هادي واحلام مستغانمي والشعراء السياب والبياتي وسعدي يوسف وامل دنقل وغيرهم كثر .
ولابد من تجسيد التكامل في الفضاءين واعتراف الجانبين ببعضهما من غير منة لاحدهما على الاخر ، فلا نص من دون مؤسسة اكاديمية ، ولامؤسسة اكاديمية من دون نص ولا بد من انفتاح المؤسسة الثقافية على المؤسسة الاكاديمية , فكلتاهما في المحصلة منتجة نص ومبدعة نص ولإزالة ذلك الانقطاع على المؤسسة الادبيه عدم المبالغة بالتعالي والنرجسية ، وعلى المؤسسة الاكاديمية التخلي عن التقوقع والانغلاق ولابد من الانفتاح على المؤسسة الادبية والثقافية من خلال الندوات والمؤتمرات ودعوة الادباء والمثقفين وتعريف الطلبة على انجازات المؤسسة الادبية وممارسة النشر في الصحف والمجلات , وجعل المجلات الاكاديمية مقروءة خارج اسوار الجامعة وهذا مايحصل فعلا في بعض واقعنا الثقافي والاكاديمي بشكل جزئي لا كلي . وبذلك يحقق النص حضوره الابداعي في الفضاء الثقافي , ويحقق الفضاء الاكاديمي حضورا في المؤسسات الثقافية. فالنص اولا هو صانع وهو حلقة الوصل والتجسيد الحقيقي للتفاعل بين المؤسستين خدمة للإبداع والعلم والمجتمع .