روني

ثقافة 2023/11/28
...

  اميرة محمد

تبحث سالي روني بإصرار عن الجمال في الحياة وتنجح في العثور عليه. عالم جميل، أين أنت؟ رواية ذكية تتعمق في موضوعات عالمية ووجودية، فهي تستكشف الروابط الإنسانية والعلاقات المعقدة بين البالغين من ناحية، ومن ناحية آخرى تقدم نظرة واعية لنظام الإنتاج الأدبي والشهرة غير المتوقعة، والتقسيم الطبقي وعدم المساواة. إنها الرواية الأكثر نضجا للمؤلفة. الجدير بالذكر أن الكاتبة رفضت ترجمة الرواية إلى اللغة العبرية، رفضا لممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين.

منذ نشرها كتابها الأول "محادثات مع الأصدقاء" عام/2017/ وعملها الثاني "أشخاص عاديون"، أصبحت الكاتبة الإيرلندية سالي روني مقياساً لأدب الألفية، بعد أن جلبت لها رواياتها شهرةً دولية ونجاحاً تجارياً كبيراً وتقديراً من معجبيها المخلصين، وحتى يومنا هذا تعدُّ روني صوتاً أصيلاً قادراً على معالجة تجربة الحب والعيش في القرن الحادي والعشرين.

اشتهرت الكاتبة بتحليلها الثاقب للروابط الإنسانية وتعمقها في قوة الحب والصداقة والعالم الحميم، لقد اعترفت روني أن دوافعها الرئيسة وراء عملها هي العلاقات الرومانسية الحديثة حيث صرحت "أجد نفسي منجذبة باستمرار للكتابة عن العلاقة الحميمة والطريقة التي نبني بها بعضنا البعض".

رواية روني الثالثة" أيّها العالم جميل، أين أنت؟" تثير الموضوع الرئيس من عنوانها، هل يمكن للناس العثور على الجمال الأصيل في عالمٍ فوضوي وغير قابل للعيش فيه.

من الواضح أن العبارة تحوي قدراً معيناً من خيبة الأمل وشكلا من أشكال الحنين العميق إلى عصور آخرى.

 عنوان الرواية مأخوذ من سطر في قصيدة لفريدريش شيلر والتي لحنها شوبرت عام 1819.

تعتمد الكاتبة على الرواية بضمير الغائب وأسلوب الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين الشخصيتين الانثويتين الرئيسيتين في الرواية وهما إلين ليدون وآليس كيلهر اللتان تربطهما علاقة قوية نشأت أيام الدراسة الجامعية، لكنهما تعيشان في مدينتين مختلفتين، ومع مرور الوقت أمستا أكثر بعدا. أصبحت آليس روائية مشهورة وثرية بينما كانت إلين تعمل كمحررة في مجلة أدبية. اعتمدتا أسلوب الرسائل لاطلاع بعضهما على ما يدور في حياتهما على الصعيدين المهني والعاطفي. 

 يقدم الكتاب من خلال الرسائل صداقة فكرية تدعو إلى التفكير في القضايا الملحّة والمبتذلة في عصرنا ودراسة معمقة لكلا الشخصيتين ومشاعرهما ونظرتهما للإنسانية، حيث طرحت أفكارا جدلية عن الجنس والماركسية، ومدى التشابه بين بالرأسمالية والاشتراكية، وكذلك الأزمة التاريخية التي يعاني منها العالم والمتمثلة في الغرق الجماعي للاجئين والكوارث الناجمة عن تغير المناخ ومدى انعكاس ذلك على الثقافة والفنون، يلاحظ القارئ منذ البداية أنهما شابتان ذكيتان تعانيان من عدم الرضا عن وجودهما، وأن تأملاتهما من خلال الرسائل تغني الرواية.

في سياق آخر، تتناول المراسلات فكرة الإنجاب وخاصة أن آليس وإلين قد أمستا على أبواب الثلاثينيات من عمرهما. أصبحت تلك الفكرة تلحّ على إلين بعد أن شعرت أن حياتها فاشلة وبلا قيمة، وأن الأشياء تتحول إلى عدم خاصة بعد رؤيتها لصديقها أيدن لافيل يصاب بنوبة قلبية ويفارق الحياة. 

عاشت إلين طفولة قلقة ومريضة، كان زملاؤها في المدرسة الثانوية يعدونها غريبة الأطوار على الرغم أنها متفوقة وحالمة، فكانت مثالا للفتاة الانطوائية التي حافظت على عفتها حتى بلغت عامها العشرين. فهي تنتمي إلى اسرة صغيرة يملك والدها مزرعة صغيرة بينما تعمل والدتها مدرسة لمادة الجغرافيا، لديها شقيقة واحدة تدعى لولا وعلى عكس إلين، تتمتع لولا بشخصية صارمة وشجاعة.

قصة سيمون وإلين حلوة ومرة، هو صديقها الوحيد من أيام الطفولة، لقد وعدها أنهما سيبقيان صديقين إلى الأبد، فكانا يبتعدان عن بعضهما البعض لسنوات، يتجاذبان ويتنافران باستمرار، يرغبان أن يكونا معا، لكنها يخشيان فقدان صداقتها العميقة منذ الصغر. تتسم شخصية سيمون كوستيجان بالتهذيب متدينٌ يصبو إلى العفة، أصبح في ما بعد مستشارا سياسيا وسيماً وعضوا في الكنيسة الكاثوليكية وله ميوله الكهنوتية الخاصة.

تبدأ الرواية بانتقال آليس كهيلر إلى بلدة ساحلية صغيرة بعد اصابتها بانهيار عصبي ودخولها مصحة نفسية لبعض الوقت لتغادر بعدها إلى الريف بحثا عن الهدوء لأنها لم تعد تتحمل أن تكون حياتها الشخصية على الملأ وهي التي أرادت الكتابة لجني المال، لكنها أصبحت مشهورة ومرغمة على الإجابة عن كل الاستفسارات وقراءة التعليقات التي جعلت حياتها بائسة. لقد تذوقت القليل من الشهرة لكنها لم تعد تستطيع تحمل حالة الانفصام التي يعيشها الكتّاب، لأنها تعتقد أن المشاهير مرضى نفسيون ونظرة الآخرين لهم كأشخاص غير اعتيادين دليل على التشوه الاجتماعي. 

طرحت آليس سؤالا في إحدى رسائلها حول علاقة الكاتب المشهور بما يكتبه، إن كان سيئ الطباع، هل لهذا علاقة برواياته؟ ماذا ستجني الكتب من ربطها بسلوكيات الكاتب ومظهره الخارجي أو حتى خصوصياته؟ إنها فقط ترضي فضول القراء وتسهم في رسم صورة استبدادية للمؤلف وهذا ما دفع آليس للانهيار وهي في الخامسة والعشرين من عمرها. تلتقي آليس هناك ب "فيليكس برادي" الذي يعمل في مستودع محلي ويعيش حياة متواضعة ولديه اهتمام كبير بالفن. يجمعهما القدر في علاقة حب غير متوقعة، وفي الوقت نفسه، تعمل إلين ليدون في مجلة أدبية في دبلن مقابل راتب لا يكاد يكفي نفقاتها، تتعافى محررة النصوص من حسرة القلب وتبحث عن العزاء والرومانسية في أحضان صديق الطفولة، سيمون كوستيجان.

تتمتع الشخصيتان الذكوريتان في هذه الرواية فيليكس وسيمون بإمكانات درامية هائلة، لكن لم تتطور شخصيتاهما كما حدث مع إلين وآليس، لقد كان لهما دورا حاسما في تطور الحبكة إنما كان من الممكن استكشاف قصصهم بقوة أكبر.

تعكس الشخصيات الأربع بوضوح قلق عصرهم وخصائص بيئتهم. يعاني كل من آليس وإلين وسيمون وفيليكس من الإحباط والفراغ والفشل، يشعرون جميعهم أنهم عاجزون وعديمو الفائدة في مرحلة ما من القصة. وفي نهاية الكتاب، يتم اللقاء المنتظر بين الأصدقاء الأربعة ويمضون عدة أيام في منزل الكاتبة الشهيرة، يتناولون الطعام معا ويخرجون ويتسامرون إلى وقت متأخر من الليل. تسير الأمور بشكل طبيعي إلى أن تثير آليس وإلين جراحا قديمة وتعترف كلاهما بحقائق مؤلمة وتتبدد الأوهام. في هذه المرحلة من الرواية، تظهر قدرة الأشخاص المقربين على إيذاء بعضهم، ومع ذلك يظلون يشعرون بالحب بطريقة عميقة.

في هذا العمل، تبحث سالي روني بإصرار عن الجمال في الحياة وتنجح في العثور عليه. عالم جميل، أين أنت؟

رواية ذكية تتعمق في موضوعات عالمية ووجودية، فهي تستكشف الروابط الإنسانية والعلاقات المعقدة بين البالغين من ناحية، ومن ناحية آخرى تقدم نظرة واعية لنظام الإنتاج الأدبي والشهرة غير المتوقعة، والتقسيم الطبقي وعدم المساواة. إنها الرواية الأكثر نضجا للمؤلفة.

الجدير بالذكر أن الكاتبة رفضت ترجمة الرواية إلى اللغة العبرية، رفضا لممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين.