تمام الأكحل: أنا وزوجي جناحان لفلسطين

ثقافة 2023/11/29
...

وارد بدر السالم

تُعدّ الفنانة تمام الأكحل أول امرأة فلسطينيَّة دخلت التعليم الأكاديمي التشكيلي. ومنحها ذلك مع موهبتها التي اغتربت معها منذ طفولتها، وجوداً فنياً مؤسساً للتشكيل الفلسطيني بشكل عام. فهي رائدة في ميدان اشتغالها منذ ثمانين عاماً، وأسست مع زوجها الفنان الراحل إسماعيل شموط حضوراً فنياً لافتاً، وهما يغذيان بعضهما بالذاكرة الوطنية المسروقة التي يحاول الكيان الصهيوني سرقتها حيناً، لكنهما يتشبثان بها في ما يبدعانه من لوحات واقعية، تعبيرية، تأثرية، هي الأقرب في تحويل المأساة الفلسطينية إلى واقع رسْمي يتحرك في الآفاق الفنية العربية والعالمية. بما يتمكن منه خطاب اللوحة من أن يكون صوتاً مؤازراً لحفظ الذاكرة المحلية والتنويع عليها.

ومع الراحل شموط كانت العلاقة بينهما ذات أفق مفتوح، حتى أنَّ مرة قالت عن هذه العلاقة في لقاء صحفي: “سنكون أنا وهو جناحين لفلسطين” وكانا جناحين حقيقيين عبر اللون واللوحة والذاكرة التي لم تمت فيهما. وهذا ما يؤكد الإصرار على هويتيهما العربية التي دافعا عنها في مشواريهما الشخصيين عبر التجلي في الرسم المواكب لهما في أحلك الظروف وأقساها مرارة وغربة. لذا كان الفلسطيني وهويته وانتماؤه يشكل بؤرة جاذبة في الخطاب الفني لهما.
المرحلة التجريبية الواقعية، كانت من محطات ومراحل الفنانة. وهذا من الطبيعة الأكاديمية التي مارستها الأكحل، كون الواقع يغذّي فيها روح الطبيعة التي فارقتها مبكراً. فنهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر شهدت نشوء نظريات مدرسية فنية كثيرة، ولابد للواقعية الفنية أن تتجلى في التشكيل العالمي، كونها الرابط المهاري لريشة الفنان بينه وبين ما يحيط به من مكونات سردية بَصَرية، وبالتالي فإنَّ المرحلة الرمزية التي تلتصق بالطبيعة تعيد تنظيم اللوحة على وفق الرؤية الشخصية للفنان لصياغتها في مفهوم آخر، يأخذ من المكون الطبيعي سردياته، ويشكّله من جديد من البيئة ذاتها، لكن برؤية فنية ربما تكون أعمق من الحيّز الواقعي، بنمطية فنية تحمل معها دلالاتها الرمزية وتأويلاتها المضافة، لذلك يتغير الشكل الواقعي المادي بنسبية واضحة على سطح اللوحة ليحمل معه روح الرمز وتشكلاته المتعددة، كحاجة سيكولوجية لمنح المادي خطاباً رمزياً، في الأحوال كلها هو خطاب رمزي بدلالاته المحلية الواضحة.
تمام الأكحل وبالرغم من وجود لوحتها الواقعية والرمزية إلا أنها لم تغادر التعبيرية التي وفرت عليها فضاءات متاحة في الرؤية الفلسطينية، لذلك شغلها الرمز تعبيراً عن غياب روحي وشكلي لمكان قديم، وبالتالي فالعودة إلى الانطباعية وتجريبها اللوني حمل معه مكونات الطبيعة من جديد، بتداخل فولكلوري وأسطوري وتاريخي عميق، بما نلاحظه من عناصر الطبيعة التي رافقتها في سنوات الهجرة القسرية: البحر والأشرعة والجبال، الخيول، الأشجار، الجبال. وهذا من الطبيعي لدى فنانة استلهمت مكونات اللوحة من الطبيعة اللبنانية، التي أحالتها إلى سنوات الطفولة الفلسطينية، بما فيها من ألوان مأخوذة على الأغلب من ألوان العلم الفلسطيني، بمدركات حسية نوعية، تمكنت من تشكيلها بكثافة لونية باهرة، تشي باستحضار الذاكرة المحلية التي لابد من توثيقها في اللوحة كخازنة ملحمية لا يمكن لها أن تتوارى مع الزمن، مشيرةً إلى الهوية الفردية والجماعية في آن واحد، بما يعني استدراك اللوحة لزمنيتها الفلسطينية في إطار الماضي والحاضر والمستقبل بما يومئ إليه الرمز الفني في انطباعيته المتكونة من سرديات بصرية واضحة، يتكثف فيها اللون ويتداخل في نسيج اللوحة إلى الحد الكبير، حتى لتبدو لوحتها مكتظة بالأشجار والمياه وسرديات الطبيعة بأشكالها المختلفة، وفي عمق فني ترى فيه أنَّ اللوحة قد لا تستوعب كل ذلك الفيض النوراني، كما لو تفيض بالألوان السحرية التي اعتادتها الفنانة في لوحاتها ذات التشكيل الواقعي، الرمزي، الانطباعي، التأثري في المشهد الفلسطيني الفني المتآزر. لذلك فإنَّ لوحتها تتحرك على وفق رؤية الضياع والشتات والغياب الفلسطيني، وهي تستقي مفرداتها البصرية من الذاكرة الحية مرة، ومرة أخرى من يوميات الفلسطينيين الحافلة بالهوية المحلية التي لا تنفصل عن الهوية العربية عموماً.
ولا نشك لحظة أنَّ ذاكرتها التراثية كانت معيناً لها في تجسيد المعاني الشعبية الموروثة التي وطّدت صلتها بمنظومة القيم النفسية والروحية والاعتبارية، التي فقدتها في النزوح والهجرة شكلياً، لكنها استعادتها روحياً في مجمل ما رسمته عبر ثمانين عاماً من التواصل الحثيث في مملكة السرد الفني. وحتى مع تحولاتها المدرسية كتنظيم سلوكي فني، لم تشأ الأكحل مغادرة قضيتها، ولم تتساهل فيها. كما لو أنها تحمل على كتفيها وطناً بأكمله، وهذا التجذير الروحي، وطّن فيها أسلوبية الواقع وخياله العميق مع رمزيته وتأثريته وانطباعيته، في التحام اللون مع الخيال الفلسطيني، الذي يحلّق في مخيالها الرسْمي وألوانها المتزاحمة في اللوحة، بعيداً حتى مجرّة الخيال، لكنه يعود ليستوطن في الواقعي منه, إذ تكون فلسطين هي المحور الواسع لتجربتها الطويلة على مدار مشوارها الثمانيني الحافل بالعطاء. ويكون التراث المحلي والفولكلور الشعبي هو الأقدم والأحدث أيضاً في نسيج اللوحة الفلسطينية التي لم تبارحها.
في استعادة مختصرة لسيرة هجرتها القسرية من فلسطين، سنجد الكثير من العوامل التي أيقظت فيها نزعة الفن بشكل مبكر، وساهمت في نضوجها السريع على وفق هذه المؤشرات والمحطات التي طورتها مع تنفيذ المراحل التي عاشتها بيقين الفن الصادق:
• عاشت الأكحل كارثة النكبة منذ عام 1948
• نزحت عبر البحر إلى بيروت مع أسرتها.
• مارست رسم البطاقات الصغيرة، لتوفير بعض المال القليل لأسرتها النازحة.
• أول معرض شاركت فيه كانت بعمر 14 عاماً.
• دخلت دورة رسم وهي تلميذة صغيرة في بيروت.
• رعاها الفنان اللبناني مصطفى فروخ في بداياتها الفنية.
• درست الفن المعاصر في القاهرة في بدايات الخمسينيات.
• أقامت معارض فنية منذ عام 1954 حتى عام 2003 في ليبيا والكويت وبيروت والقاهرة والإسكندرية ولندن وتونس والجزائر وروما وباريس والمغرب وبكين والنمسا وبرلين وبلغراد وأبوظبي وعمان ورام الله واليابان والأردن وإسطنبول والبحرين ..وغيرها من مدن العالم.
• أصدرت كتاباً بعنوان “اليد ترى والعين ترسم” روت فيه تفاصيل سيرتها منذ الطفولة.