ألف لام هاء
أحمد عبد الحسين
نادرة هي الأديان التي تنقرض لأنَّ الدين لا ينتهي في العادة. وحتى الأديان غير التبشيرية كالصابئيّة مثلاً وهي من أقدم ديانات البشر، ما زالت حيّة ولها كتابها المقدّس والمؤمنون به وبها. غير أنَّ هناك أدياناً قليلة انتهتْ وصارتْ أثراً بعد عين، وهي تلك التي تُعبَد فيها آلهة لا اسم لها، الأديان التي منع كهنتُها أو شاماناتُها أو سدنتها من تسمية معبودها باسم ما.
على مرِّ التاريخ كان هناك أناس يعبدون إلهاً بكلِّ إيمان ومحرّمٌ عليهم أنْ يشيروا إليه باسم. ففي دين يسمونه “اللامسمى” وفي دين آخر اسمه “الذي لا اسم له” وفي آخر “مَنْ لا نسميه”، وفي النهاية يضجر العابدون من عبادة غير المسمى ويهملونه، لأنَّ كلَّ شيء هو في الحقيقة رسم واسم، وإذا غاب أحدهما أو كلاهما ثُلم من حضوره ثلمة لا يسدّها شيء. وسيظلّ هذا الإله الغفل عديم الاسم مريباً يثير الشكوك من حوله لأنه مملٌ فهو والعدم سواء.
كانوا يريدون أنْ يقدسوه بمنع ذكر اسمه فقضوا عليه من حيث لا يشعرون.
الأديان الرئيسة أغدقت على إلهها بأسماء حسنى، لكنها ضمنتْ له هذه الغلالة من السحر والغموض والتورية بأن قالت عنه إنه “هو” أو كما في أول كلام صدر من النار لموسى: “أنا الذي هو أنا”. وأعمق أذكار الصوفية وأكثرها ترداداً اسم “هو”. وحتى كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” هي أثنا عشر حرفاً، لكنها في الحقيقة ثلاثة حروف فقط “ألف لام هاء” وقد كُرّرتْ بهذا النظام العجيب، ومجموعها وحدها يشكل كلمة “إله”.
نقرأ في الزيارة المسمّاة بالجوادية، وهي الزيارة التي أنشأها الإمام الجواد لزيارة أبيه الإمام الرضا “عليهما السلام”: “السلام على شهور الحول وعدد الساعات وحروف لا إله إلا الله في الرقوم المسطرات”.
التوحيد كلّه ينحلّ إلى هذه الحروف الثلاثة. فهو مسمّى وغير مسمّى في آن. مع ملاحظة أنَّ الحروف ليست شفاهية ويستطيع الذاكر أنْ ينطقها من دون فتح فمه، فهو نطق من دون نطق، وذكر من دون ذكر، وتسمية من دون اسم.
الذِكر، أيْ ترداد الاسم، هو ما يبقي الربّ في القلب.
أما الذين انشغلوا بالحفاظ على سرّانية اسم إلههم ومنعوا ذكره فقد نسوه ونسيهم وأنساهم أنفسهم، كانوا كمن يبالغ في إخفاء كنزه إلى أنْ يَنسى هو نفسه مكان الكنز. وهذا هو معنى الكُفر لغةً “الإخفاء”. والكافر في الأصل يُطلق على الفلاح لإخفائه البذور في التربة، ولذا يُسمى الحقل المزروع كَفراً. لكنِّ لهذا حديثاً آخر يطول.