أين البرامج الثقافية في قنواتنا العراقية؟

ثقافة 2023/11/29
...

البصرة: صفاء ذياب

لم تزل ذاكرتنا تحفل بالعديد من البرامج التي بنت ثقافتنا في الطفولة، ليس أولّها برنامج (افتح يا سمسم)، أو (سينما الأطفال) لنسرين جورج، وبالتأكيد (المرسم الصغير) لخالد جبر، وقبلها برنامج (عالم الأطفال) الذي كان يقدّمه عمو زكي. هذه البرامج استمرّت مع الطفل العراقي لتتلقّفه برامج أخرى حينما يكبر، ليبدأ بمشاهدة خيرية حبيب وهي تقدّم (عدسة الفن)، وابتسام عبد الله ببرنامجها الشهير (سيرة وذكريات)، وغيرهما.

وفضلاً عن البرامج الثقافية المتخصّصة، فلم يكن برنامج (العلم للجميع) الذي يقدّمه كامل الدباغ، وبرنامج (الرياضة في أسبوع) لمؤيّد البدري، بل وحتى برنامج (السلامة العامة) الذي كان يقدّمه ابتهاج الياور، أقل متابعة من المعنيين بالثقافة أو المعلومات العامة.
تمكّنت هذه البرامج وغيرها من بناء وعي أجيال كاملة، وغيّرت من توجّهات شباب كُثر نحو القراءة والفن والأدب بشكل عام. غير أنَّ التحوّلات الكثيرة التي مرّ بها العراق، منذ تسعينيات القرن الماضي، مروراً بالانقلاب الكبير في العام 2003، وحتَّى ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، حرّفت الطريق نحو مشاهد أخرى كانت غائبة عن السلوك المجتمعي، ما أدّى إلى إهمال أيّة برامج ثقافية على الفضائيات عموماً، وفي القنوات العراقية على وجه الخصوص.
فعلى مدى عقود، كانت البرامج الثقافية التلفزيونية نافذةً للاطلاع على آخر المستجدات الثقافية العراقية والعربية، غير أنَّها منذ عقدين بدأت بالتقلّص والندرة، وإن وجدت فهي الأقل مشاهدةً حالياً، فكيف نقرأ الأسباب الكامنة وراء ذلك؟
أولويات الحياة
يؤكّد الدكتور ياسر البراك أنَّ هناك أسباباً سياسية واجتماعية ونفسية وثقافية هي التي أدّت إلى تراجع الاهتمام بالبرامج الثقافية التلفزيونية خلال العقدين الماضيين، فقد كان الاحتلال الأمريكي وما تبعه من هجنة للنظام السياسي في العراق سبباً رئيساً إذ وقعت الدولة عموماً وبضمنها وزارة الثقافة في خانة المحاصصة المقيتة التي انعكست على طبيعة الخطاب الثقافي للدولة وتمثّلاته في وسائل الإعلام وبضمنها البرامج التلفزيونية، وقد ترتّب على ذلك انقسامات اجتماعية حادّة، إذ بدأت تظهر الهويّات الاجتماعية الفردية على حساب الهوية الاجتماعية الوطنية الرئيسة للوطن العراقي، الأمر الذي أدّى إلى تمزّق في نسيج المجتمع أثّر بشكل سلبي على مفهوم الثقافة عبر سيادة ثقافات عديدة متصارعة على السلطة بعد أن كانت الثقافة القومية الأحادية هي السائدة قبل العام 2003 بفعل سطوة وجبروت النظام الدكتاتوري.
ويضيف: لا شكَّ أنَّ هذه الانقسامات الكبيرة في نسيج المجتمع أثَّرت على البناء النفسي للإنسان العراقي في ظلِّ شيوع الثقافة الطائفية وانتشار العنف وانحسار مساحة الأمن والأمان ما أدّى إلى تراجع في الأولويات لدى الناس حتَّى باتت الثقافة وبرامجها التلفزيونية نوعاً من الكماليات أو البطر الثقافي الذي يُزاحم أولويات العيش اليومي والحفاظ على الوجود الشخصي في ظل الاحتراب السياسي بين المكوّنات وانعكاس ذلك على مساحات البث التلفزيوني حتَّى أصبحت البرامج الثقافية في آخر سلّم أولويات القنوات التلفزيونية، فضلاً عن شيوع ثقافة التسطيح والمحتوى الهابط عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي مارست بديلاً للقنوات التلفزيونية في الكثير من محتوياتها الإعلامية وبضمنها المحتوى الثقافي الذي سادت فيه قيم التفاهة والتجهيل والتعمية والخطاب الديني المتشدّد الذي جاهد لمحاربة الثقافة بمعناها المدني وتكريس الخطابات الظلامية المعادية للفن والجمال والثقافة والتسامح والحياة المدنية ومساحات الفرح التي راحت تتلاشى تدريجياً مع تمكّن هذه الجماعات الحزبية والميليشياوية من السيطرة على وسائل الاعلام وبضمنها القنوات التلفزيونية بالمال تارة وبقوّة السلاح تارةً أخرى، فبدأنا نشهد منع أعمال فنّية وبرامج ثقافية، وتطوّر الأمر إلى حرق مقرات قنوات فضائية أو الاعتداء على كوادرها وترهيبهم بشكل مستمر وصل حدَّ التصفيات الجسدية والشواهد كثيرة منذ عقدين من الزمن.
جمهور متغيّر
ويطرح الشاعر والصحفي قاسم السنجري أسباباً عدّة تقف وراء تراجع البرامج الثقافية في القنوات التلفزيونية العراقية، يمكن أن نجملها، بأنَّ القنوات التلفزيونية لا تفرد مساحة للبرامج الثقافية وتهتم بشكل أوسع بالبرامج السياسية والأخبار، وهذه القنوات بالغالب هي قنوات خاصة وتتبع للمال الذي يقوم بتمويلها، وهذا المال السياسي لا تندرج ضمن أجندته أيّة اهتمامات بالثقافة ومنجزها والمشتغلين فيها، أمَّا على صعيد القنوات الحكومية فهي لا تضع ضمن خطّتها التلفزيونية سوى برنامج ثقافي واحد وتضعه في توقيت ليس وقت الذروة بعدد المشاهدات، لذا لا تحظى هذه البرامج الثقافية بمتابعة كبيرة، وبطبيعة الحال سيكون هذا البرنامج خاضع للسياسة العامة للحكومة بشكل كبير، ومن ثم يكون خاضعاً لذائقة معد البرنامج ومنظومة علاقاته في الوسط الثقافي والسقوط في الروتينية بإنتاج برنامج لا يسلّط الضوء على منجز مؤثّر، وما أوردناه من أسباب يختص بصانعي البرامج الثقافية، أمَّا بخصوص من يتلقّى هذه البرامج- وهو المشاهد- فقد طرأت عليه تغيّرات اجتماعية وثقافية جعلته لا يهتمُّ كثيراً بمثل هذه البرامج، فمع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها أخذت الاهتمامات تتجه نحو الترفيه والبحث عن المتعة البصرية من خلال ما يتمُّ عرضه من خلال التطبيقات وليس بالضرورة أن يكون ما يعرض فيها مفيداً، بل على العكس، إنَّ هذه التطبيقات أسهمت بشكل كبير بالتأثير على الذوق العام وخرجت علينا بظواهر غريبة تحتاج للبحث والدراسة، وهذا يخلق فجوة بين البرامج الثقافية التقليدية عبر القنوات التلفزيونية وما يتمُّ عرضه عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، وعلى القائمين على صناعة البرامج الثقافية أن يغيّروا جلودهم وطريقة عرض سلعهم الثقافية لتسويقها بشكل يلائم طبيعة الجمهور المتغيّرة.
أولوية الإنتاج
ويرى الدكتور حسن قاسم- الذي قدّم أول برنامج ثقافي أسبوعي في قناعة العراقية بعد العام 2003- أنَّ البرامج الثقافية التي تتابع النشاطات الثقافية، والبرامج الحوارية مع منتجي الثقافة؛ ما تزال تقدّم في القنوات الفضائية على الرغم من تراجع الاهتمام بها لصالح البرامج المنوّعة والبرامج السياسية، وذلك لما يقدّم في هذين النوعين الأخيرين من نجوم في عالمي السياسة والفن، وتكمن المشكلة في التطوّرات الاجتماعية، والتبدّلات في آليات التلقّي، وتغوّل وسائل التواصل الاجتماعي، والمزاج العام للمتلقّي الذي بدأت مساحته تضيق أكثر فأكثر حتَّى ما عاد يهتمُّ بالمستجدّات الثقافية العراقية والعربية والعالمية. لقد أصرَّ منتجو الثقافة والبرامج الثقافية التي تتابع نشاطاتهم على المضي قدماً نحو الأمام، ولم يتوقّفوا عن إنتاج هذه البرامج التي تتطلّب جهدا كبيراً، ومضاعفة لمتابعة الأخبار الثقافية واللقاء مع صنّاعها حالها حال الأخبار السياسية التي تتطلّب مجموعة كبيرة من المراسلين والمصوّرين والمحرّرين والمخرجين واستوديوهات الأخبار. إنَّ العمل اليومي داخل وخارج المؤسّسات الإعلامية لتقديم الخبر الثقافي يستنفذ الجهود التقنية والبشرية نفسها لتقديم الخبر السياسي من تصريحات وندوات ومهرجانات فنية مسرحية وسينمائية ومعارض كتب ومعارض تشكيلية، ولكن لا يحظى العاملون فيها بأهمية العاملين نفسهم في الشأن السياسي وصناعة الأخبار، وتلك مفارقة قد لا يشعر بها الجمهور، ولكنَّها واقع مزعج.
السياسي مقابل الثقافي
ويعتقد الدكتور كاظم المقدادي أنَّ الظروف السياسية والأمنية التي مرّت على العراق منذ أكثر من عقدين، كانت من الأسباب المهمّة التي عطّلت دور الثقافة في حياتنا الاجتماعية. فقد كان الهم السياسي والأمني بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، مسيطراً على حياتنا اليومية.. وكانت النتاجات الثقافية من شعر وقصة ورواية ومقالة أدبية خجولة، لا تتناسب والعمق الفكري الذي عرف به العراق تاريخاً وحضارة. ثمَّ أنَّ انشغال الادباء والمعنيين بالمنجز الثقافي بالتقلّبات السياسية، وتراجع البرامج الثقافية وحتّى الصفحات الأدبية في الصحف اليومية، سبب آخر مضاف لتردّي البيئة الثقافية.
مضيفاً: الثابت، أنَّ التوجهات العامة للدولة وللحكومات المتعاقبة بمنأى عن اهتمام إدارة الدولة وكانت لا تخدم الفعل الثقافي إطلاقاً، لا بل إنَّها تقف أحياناً ضدَّ أي مشروع ثقافي متواصل. لذلك، فإنَّ عزل الثقافة عن حياتنا اليومية أربكت المشهد الثقافي لحساب النشاطات السياسية والدينية. قد تكون المهرجانات الثقافية ومنها مهرجان (بغداد.. عاصمة الثقافة العربية) قد حرّكت الأجواء الثقافية في حينها، لكنَّها في الوقت نفسه حدّدت طبيعة عمل وزارة الثقافة ودورها في تنشيط البرامج الثقافية.
وفيما يتعلّق بوسائل الإعلام التي يفترض أن تساهم بشيوع الثقافة والتأكيد على رسالتها المدنيّة والحضارية.. فإنَّ التوجّهات العامة للفضائيات العراقية كانت لصالح البرامج التي تعمل على اتساع رقعة الجدل السياسي العقيم، وليس الفكري العظيم.
كلُّ الذي ساد وشاع، يتسم بالهم السياسي البحت.. ولم تشتغل دوائر الدولة بجدّية على تحديث برامج ثقافية لها جمهورها مقارنةً بالبرامج السياسية التي سيطرت على الفضائيات بشكل مخجل ومثير، وصرنا لا نشاهد إلَّا هذه البرامج وكأنَّها مفروضة على المتلقّي أيَّاً كانت توجّهاته. وعلى الرغم من أنَّ هناك ندوات ثقافية نجدها، في بعض المقاهي الأدبية، وفي بعض النوادي الاجتماعية العراقية، لكنها ظلت محصورة على جمهورها.. وتلك هي الطامة الكبرى التي جمّدت النشاطات الثقافية التي يفترض أن تكون ثقافة جماهيرية واسعة.
عبء جديد
ويختتم الكاتب والصحفي حسب الله يحيى حديثنا مشيراً إلى أنَّ البرامج الثقافية في الفضائية والإذاعة العراقية، لم يعد لهما ذلك البريق السابق. كنَّا نتابع ونرصد ونساهم ونجد أنفسنا وزملاءنا في تلك البرامج الثقافية التي كانت تشكّل رافداً مهماً من روافد الثقافة. في حين أنَّنا الآن لا نجد سوى برامج حوارية، لا تتناول سوى الحديث عن الأمور الشخصية، كما لو أنَّها تقدّم ببلوغرافيا عمَّن تحاوره.. في حين أنَّ هذه البرامج مخصّصة للحديث عن أبعاد فكرية وإبداعية حية وحوارات أعمق وأغنى.. أمَّا البرامج الثقافية الخبرية، فهي الأخرى لا تتجاوز التغطية العابرة، وكان الأمل أن ترصد النشاط الثقافي مقترناً بالنقد من قبل نخب ثقافية متخصّصة. فلا نجد ندوة ثقافية حيّة، ولا برامج متخصّصة للسينما والمسرح والتشكيل والموسيقى والكتب الجديدة، كما كنّا نتابعها من قبل.
ويعتقد يحيى أنَّ عدداً من العاملين في الشأن الإعلامي، لا شأن لهم بالثقافة والمثقفين، وربَّما يشكّل هؤلاء عبئاً على فقرات البرامج التي يتمُّ إعدادها وتقديمها راهناً. في حين تحوّلت متابعة المعنيين لهذه الموضوعات إلى مواقع التواصل الاجتماعي من خلال برامج حيّة منها حوار التنوير، الكتب المقروءة، الحوارات الفكرية، التي تقدّمها فضائيات عربية عديدة، فيما نحن ما زلنا نقدّم كلّ ما هو عابر للأسف الشديد.