رضا المحمداوي
في الحديث عن مأزق البرامج الثقافية التي تبثُّها القنوات الفضائية عموماً والعراقية منها على وجه الخصوص في الوقت الراهن،لا بُدَّ من الإشارة إلى ظاهرة باتتْ مُشخّصةً وواضحةً ومعروفةً لدى الأوساط الإعلامية والثقافية وهي أنَّ التلفزيون قد فَقَدَ سحرَهُ القديم ولمْ تعدْ جاذبيتهُ المعهودة تمارس غوايتها في استقطاب نمط أو نوع من الجماهير أو الشرائح الواسعة كأولئك(المتفرجين) القدامى الذين كانوا يجلسون على أرائك المقاهي الشعبية أو يمكثون باسترخاء في بيوتهم وهم يتطلَّعون بشغفٍ إلى ما تعرضهُ شاشة التلفزيون أو يترقَّبون بكل شوقٍ ولهفة عرض برامجهم أو موادهم أو أفلامهم المفضلة.فقد أصبح الأنترنت وجهاز الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي ومقاطع الفيديو القصيرة وألعاب الفيديو وانتشارها على نطاق واسع وتحقيقها لنسب تفاعل مرتفعة وشيوع مصطلحات ومفاهيم ومعايير جديدة مثل(الترند) ونسبة المشاهدة وعدد الإعجابات(اللايكات) هي السائدة والمتحكمة كمقاييس واعتبارات في النشر والمتابعة والتفاعل وسط الجمهور الواسع،وهذا التفاعل المحموم بطبيعته المتزايدة ووتيرته المتصاعدة لا يثمر في الغالب عن شيء ذي قيمة أو أهمية أو اعتبار بل على العكس تماماً فغالباً ما يكرِّس ويروِّج لظواهر سلبية.
والمفارقة المؤلمة أنَّ مثل هذه المفاهيم وما يتبعها من سلوكيات وتصرفات فردية قد أصبحتْ ثقافة شعبية عامة تشهد تداولاً كبيراً وإقبالاً متزايداً عليها وتحظى بالتفاعل معها مما يدفع بها لزيادة رقعة انتشارها على نطاق واسع ويضعها في الواجهة الاجتماعية بشكل يومي ومستمر في التوّ واللحظة،وتكمن خطورة هذه المواد المنشورة وما تحظى به من تفاعل في ما تحتويه من مضمون أو محتوى هابط ومسيء والذي ينزل بمستوى الذائقة العامة إلى الحضيض.
وإزاء هذا الحال:
- كيف يمكن للمحتوى الثقافي والفكري والمعرفي أنْ يكون حاضراً ليمارس دورَهُ وفعاليتهُ في الوقوف بوجه ذلك التردِّي والانحطاط والتراجع العام في مستوى التذوُّق والتعامل والتفاعل؟
وإذا أخذنا البرامج الثقافية في القنوات الفضائية العراقية كنموذج للرد النوعي المطلوب والمرتجى لوجدنا أنَّها تواجه عدة تحديات وتعاني من صعوبات في إيصال خطابها الثقافي ضد ذلك السيل الكاسح من مفردات الرداءة والسخافة والسفاهة المنتشر في المساحة الواسعة للثقافة الشعبية العامة،فالبرامج الثقافية ولا سيِّما البرامج الثقافية الميدانية التي تُعنى بمتابعة تفاصيل ويوميات الثقافة بآدآبها وفنونها غالباً ما يُنظر إليها على أنَّها موجهة أو مخصصة إلى شريحة أو فئة توصف بأنها(نخبة) أو (قلَّة) محددة،في حين أنَّ طبيعة المنازلة الثقافية والاعتبارية الكبيرة التي تخوضها في صراعها مع موجات المضمون الرديء والسيء تقتضي منها الذهاب إلى الجمهور العام ومحاولة جذبه إلى منطقتها الثقافية والعمل على استخدام الوسائل والأدوات الفنية التي من شأنها زيادة الترغيب والتحبيب من أجل إشاعة قيم الثقافة والمعرفة والجمال بكافة أنواعها وأنماطها ومن ثم العمل على تسويق تلك الفقرات والمواد داخل منظومة(السوشيل ميديا) نفسها في سبيل جعل المتلقي عنصراً إيجابياً في العملية التفاعلية في الوسيط الإعلامي الجديد وتزيد من إقباله على الثقافة وعوالمها المتنوعة.
وهنا تبرز قدرة وإمكانية صانع أو منتج المحتوى الثقافي في الدخول لهذا المعترك والخوض في تفاصيله من أجل القيام بمهمته السامية والمتمثلة في الارتقاء بذائقة الجمهور العام والأخذ بيده إلى حيث يكمن السمو والرفعة والنأي به عن كل ما هو سيء ورديء وسط ما نشهدهُ من تخلُّفٍ وتراجعٍ ثقافيٍ ملحوظ في الثقافة الشعبية العامة.
وبما أنَّ واحداً من الواجبات التقليدية للإعلام هو(التثقيف) لذا أصبح لزاماً تعريف الجمهور العام من المواطنين من خلال البرامج الثقافية بأنَّ ما يكتبونهُ وينشرونهُ ويتداولونهُ وما يقدمونهُ من محتوى أو مضمون سواء بالكلمة أو بالصورة أو بمقطع الفيديو على صفحات الفيسبوك واليوتيوب و(الريلز) و(التيك توك) ما هو إلاّ تعبير عن الهوية الثقافية للمجتمع برمَّته بما تحتويه هذه الهوية من أنماط سلوك وطريقة فهم واستيعاب وبما تتركهُ من أثر في التصرفات والأفعال تدلُّ على قيم الخير والجمال والحق أو عكسها تماماً.
ومن هنا يتوجب على صانع المحتوى الثقافي ولا سيِّما في البرامج الثقافية( الأدبية والفنية) الحوارية منها أو الميدانية،ابتكار الأساليب والوسائل الفنية الجديدة في صياغة وتقديم المادة الثقافية،ومن ثم الحرص على الترويج لتلك المواد والفقرات الثقافية وتسويقها بذات القوة والهمة والحرص على الانتشار وباستخدام ذات الأدوات والأساليب الشائعة المستخدمة في(السوشيل ميديا) وذلك من أجل(تجسير) المسافة الفاصلة بين الإثنين وردم الفجوة القائمة بينهما.ذلك لأنَّ إنتاج أو تقديم برنامج ثقافي تلفزيوني لمْ يعدْ كافياً لإشاعة المحتوى الثقافي بين الجمهور العام المحاصر بهذا الطوفان الصوري من كل الجهات،آخذين بنظر الاعتبار أنَّ علاقة المتلقي –المُشاهِد لمْ تعدْ حميمية مثلما كانت قبل سنوات من استخدام الأنترنت وشيوع منصاته ومواقعه واستخداماته المتعددة والمتنوعة، ومن هنا يتوجب الانتباه إلى ضرورة كسر الصورة النمطية التقليدية في إعداد البرامج الثقافية وطرق تقديمها لا سيِّما أنَّها متهمة دائماً بتقديم مادتها إلى جمهور(المثقفين) حصرياً.
الجانب الآخر من مأزق البرامج الثقافية في القنوات العراقية الرئيسة يتمثل بالتقاعس والكسل وعدم المتابعة الجادة والمستمرة ليوميات الثقافة العراقية وما تشهده الملتقيات والجمعيات والنقابات والتجمعات من فعاليات ونشاطات ثقافية متعددة ومتنوعة،حيث نجد الغياب والتجاهل المتعمد في عدم توثيق مثل هذه الجلسات وبثها وإشاعتها بين الجمهور العام بواسطة تلك البرامج الثقافية،فقد لاحظتُ شخصياً غياباً تاماً لكاميرات القنوات الفضائية وعدم قيامها بتوثيق وتسجيل وبث الكثير من وقائع هذه الجلسات والفعاليات والأنشطة وما يدورُ فيها من حوار وقيم وما تحتويه من معان ٍ ثقافية وفكرية ضرورية ومهمة في حياتنا الاجتماعية العامة.
ومن هنا تأتي أهمية أنْ تولي القنوات الفضائية عناية ورعاية ثقافية خاصة لتلك الملتقيات والفعاليات الأدبية والفنية وما تزخر وتكتظ به من مواد ومضامين ومحتويات ثقافية مع ضرورة الحرص الشديد على الترويج لتلك المواد بذات القوة والحضور والمثابرة من أجل الترويج لها وانتشارها باستخدام نفس الأدوات والأساليب الشائعة المستخدمة حتى لو كان عن طريق الإعلان الممول!
-:أليسَ هذا هو المحتوى الثقافي المطلوب إشاعته ضد المحتوى الهابط الشائع والمتداول والآخذ بالإتساع والانتشار يوماً بعد يوم في عالم(السوشيل ميديا)؟؟