الماضي في غضب الأنين لجبران مسعود

ثقافة 2023/11/29
...

ضحى عبد الرؤوف المل

يوظف الأديب جبران مسعود رؤيته التربوية في سيرة روائية بعنوان “غضب الأنين”، اتبع فيها النهج الأدبي من منظور تعليمي للتعامل مع واقع عاش فيه،  وهو نوع من التراث الغني في ظل بيئة محددة ، ضمن فترات زمنية عاشها.  يضفي جبران مسعود نظرة  روائية على الفكر التربوي في لبنان في سعي منه لتسليط الضوء على المناهج الدراسية القديمة أو الفرنكوفونية في غالبها،  مستبدلاً ضمير المتكلم بشخصية مازن، موضحاً أنه تجنّب ما استطاع “صيغة المتكلم ، صيغة الـ”أنا “، لذلك سمّيتني في هذه السيرة “مازناً”، وهو ما بين التربية والأدب شكّل نوعا من القصص المتواصلة التي تتمحور حول الأنا،  ولكن من خلال شخصية توعوية”. كانت مدرسة “مازن” تسهر جاهدة على تلقين أولادها كلّ ما تتلقفه عقولهم من علوم، فانطلقت اللغتان العربية والفرنسية فيها جنباً إلى جنب مع هيمنة للفرنسية.” فالنهج المزدوج في التربية والتعليم هيمنت عليه زمنية مدروسة بعناية كاتب ذي بصيرة أدبية، منطلقاً من سنين الدراسة في مدرسة ابتدائية “تسعى إلى شهادتين: لبنانية وفرنسية  “، إلى حياة بأكملها عاشها مازن في ماض لبناني تعليمي نشأ فيه محاصراً باللغة الفرنسية، “أما في ملعب المدرسة فاللغة العربية غريبة، محاصرة، وحجة القيمين على المدارس أن امتلاك الفرنسية يكون فيها، أما العربية فلها البيت ولها المحيط.” معتبراً أنه انطلق من بيئته الصغيرة وهي المدرسة إلى البيئة الأكثر اتساعاً محتضناً لغة الضاد وهو مقتنع “ بأن هذه اللغة هي القادرة علىى حشد اللبنانيين تحت الراية، وعلى ضم الناطقين بها في الجغرافيا القريبة والبعيدة في الحاضنة القومية الشاملة “، فهل من أيديولوجية يشير إليها في سيرة ذاتية يُمجّد من خلالها اللغة والوطن والعائلة والقرية الصغيرة ؟ أم هي رؤية تربوية في قالب روائي لقصص تسلسلت من ماض نشأت فيه أدمغة فتية، منهم من  تزنّر بأهواء فرنجية ومنهم من التزم باسمه وعروبته؟.
سيرة ذاتية حافلة بعشق اللغة العربية وحروفها حتى القارىء لهذا الكتاب سيقرأه مرات متكررة.  ليستمتع بسلاسة لغته العربية،  وترتيبها البصري الذي يجذب عشاق الحروف الأخرى، “ فالحرف في اللغة لم يقف يوما حائلاً دون انتشار فلسفتها وآدابها وعلومها ودياناتها”، ولكن لقواعد اللغة صرفاً ونحواً محنة مختلفة لا تقل أهمية عن محنة الحب وقصيدة الأستاذ مازن لمحبوبته،  وأهمية التعايش مع الملل الأخرى برضا وقناعة، رافضاً الإقطاع الطائفي الذي يغذي التعصب والفرقة. وما بين مدرسة سليم الصغير” تهذيب الفتاة “ القائمة في الأشرفية، والكحل الفرنسي والعمى التركي والفرنكو فيلية والكثير من الأحداث الوطنية، حكايات كحّلها بمفهوم التربية والتعليم آنذاك، الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن بعد تشوهات متعددة في اللغة العربية التي فقدنا بوصلتها التي تمسك بها مازن في التعليم والكتابة أو التأليف القائم على المفهوم التربوي . فهل خسرنا مرحلة النهضة العربية وما رافقها من نهضة أدبية؟ وهل نحن حاليا في ضياع ثقافي إنساني بعد الثورات التي اجتاحتنا كما الماضي الذي يرويه جبران مسعود في سيرته الذاتية؟.
خلط جبران مسعود المفيد في الأدب واللغة، بالتسلسل القصصي في رواية ذات شكل أدبي التزم به، لخلق صورة تاريخية لبداية التعليم في لبنان منذ ما قبل الاستقلال حتى الآن . إذ يُقدم انعكاسات أدبية ضمن نطاق الأدب استناداً لفترات مختلفة عاشها، مستحضراً الباطن البنيوي تربوياً في لبنان والتزامه بالفرنكفونية وتأثيراتها في من لم يستطع إتقان الفرنسية كما ينبغي، ومن لم يستطع إتقان اللغة الفرنسية كما يجب . فكل الحروف في لغات العالم من فرنسية وإنكليزية وعبرية وعربية هي مدعاة للتقيد بقوانين اللغة بشكل عام، والاهتمام بالرضا الوطني قبل كل شيء، ونحن وسط “المعمعة من الفساد السياسي والتقهقر الاقتصادي والاجتماعي، وذوبان الطبقة الوسطى وازدياد المحرومين حرماناً”، فهل قدم لنا في هذه السيرة الذاتية مساراً تربويا تاريخيا من خلال رحلة حياة مازن، الذي استبدله بالأنا ليكون بذلك قد ابتعد عن أنانية الفرد، ليتصل بالكل من خلال الأنا وضمير المتكلم غير المباشر، ليسلط الضوء على نوع من الرواية الحديثة المرتبطة بالماضي أو الرواية التربوية أو التعليمية بأسلوب أدبي غير معقد؟.