ميادة سفر
حظيَ مفهوم الدولة بالكثير من الاهتمام والنقاش الفلسفي والسياسي، فقد اندرجت مسألة الدولة ضمن جدل العلاقات بين الأفراد والمجتمع، وتباينت آراء الفلاسفة ومواقفهم من هذا المفهوم، برزت عدة نظريات ناقشت فكرة الدولة، إذ بقيَ مصدر السيادة والسلطة السياسيّة ذو طبيعة إلهيَّة حتى نهاية العصور الوسطى في أوروبا، حيث سيطرت العقيدة التي أعدها القديس أوغسطين ولاهوتيو القرنين الثاني عشر والثالث عشر على الفكر السياسي في تلك الفترة
وبموجبها كان على السلطة السياسة ممثلة بالدولة أن تخدم الكنسيَّة، لاحقاً سيتم فصل الدين عن الدولة ويظهر عدد من الفلاسفة والمنظرين الذين أسسوا النظريات التعاقديَّة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ومع ظهور مفهوم الدولة بدأ الجدل حول علاقتها بالمجتمع والأفراد، فمن كونها تمثل غاية مثاليَّة عند هيغل، إلى اعتبارها جهاز سيطرة مهيَّأ للزوال عند كارل مارس، ذلك النقاش حول علاقة المجتمع بالدولة سوف يعززه وجود مجتمعات بشريّة قبل ظهور الدولة.
انتقد هيغل قيام نظريات العقد الاجتماعي بالدمج بين المجتمع والدولة، واختزال دور الدولة في وظيفة منفعيَّة، إنَّ الدولة الهيغليَّة غاية عقلانيَّة تكمن في تجاوز المصالح الفرديَّة، والدولة غاية في ذاتها، لأنّها تجسد الروح المطلق، والإرادة العامة العقلية والحرة والكلية، فهي تحرر الفرد من الانزواء حول ذاته وحول مصلحته الفرديّة، وهي تضمن الارتقاء من الفردي إلى العام، يقول: “إنّ الدولة هي التحقق الفعلي للفكرة
الأخلاقيّة”.
رأى ماركس ورفيقه إنجلز أنَّ الدولة في ظل صراع الطبقات ليست إلا أداة إكراه قمعي، وأداة قانونية ومادية لسيطرة الطبقات الاقتصادية والسياسة القيادية على طبقة البروليتارية، واستغلالها وقمعها، ولا بدَّ للدولة وفقاً للفكر الماركسي من الذبول والزوال، في مجتمع حر بلا طبقات ولا دولة.
أما الفوضويَّة التي كان من أبرز منظريها “باكونين وبرودون” فقد نادت بإلغاء الدولة، فالدولة ليست إلا أداة لاستعباد الأفراد، وممارسة العنف عليهم، وتدعو الفوضوية إلى مجتمع حر يستبدل بالدولة حيث يعيش الناس أحراراً لا يخضعون إلا لإرادتهم الخاصة.
في جانب آخر ثمة مجتمعات بلا سلطة سياسية تمارسها الدولة، فقد أظهرت أعمال كلود ليفي شتراوس أنّ المجتمعات الخالية من الدولة ممكنة، فقد عرفت بعض التنظيمات البدائيَّة هذا الشكل من المجتمعات، إذ تقوم على مبدأ المساواة، ولا يمارس السلطة فيها كيان مستقل وإنما المجتمع هو من يقوم
بذلك.
يقول المفكر التونسي هشام جعيط: إنَّ الدولة العربيّة ما زالت لا عقلانيّة، واهية، ومن ثم عنيفة، مرتكزة على العصبيات والعلاقات العشائريّة، على بنية عتيقة للشخصية”، وعلى الرغم من أنّ جعيط يخصص بحثه لتونس وفقاً للمفكر عبدالله العروي في كتابه “مفهوم الدولة” إلا أنّ كلامه يمكن أن ينطبق ويعمم على جميع الدول العربية، التي بدأ مفهوم الدولة عندها بالتراجع ليحل محله ما بات يعرف بالأنظمة في السنوات الأخيرة، فلم تعد الدولة في كثير من البلاد العربية تحاكي المصلحة العامة للأفراد والمواطنين ومؤسسات الدولة، بل أصبحت تخدم مصالح قلة قليلة من أعضائها وزعمائها، الأمر الذي سيؤدي إلا انهيار الدول وتفككها مع تخليها عن الكثير من مهامها ومسؤولياتها تجاه المجتمع.
تبدو الأوضاع الاقتصادية المتردية والأزمات السياسيّة المتلاحقة والفوضى التي طالت عدداً من البلاد، فضلاً عن الفساد الكبير في كثير من مفاصل الدولة، مؤشراً على الخطورة التي تهدد كيانها ونذير شؤم بزوالها إن لم تتخذ إجراءات عاجلة تعيد المصلحة العامة إلى الواجهة من خلال التشريعات والإجراءات التي تعزز سيادة الدولة وتضمن حقوق
الأفراد.