زهير الجبوري
إن المتابع والمعاصر لتجربة التشكيلي العراقي الراحل محمد مهر الدين يدرك مدى أهميته وحضوره في الساحة الفنية التشكيلية العراقية والعربية، لأن أهم ما يتصف به هذا الفنان أنه يعد واحدا من الذين ساهموا في تجديد الحركة التشكيلية المعاصرة.
ولعل انتماءه لعالم اللوحة في وقت مبكر أفاض لنفسه الكثير من الرؤى الجمالية وتحولاتها بين فترة واخرى، فكانت له سعة كبيرة ولون خاص وأداء واضح.
ومهر الدين الذي تخرج من معهد الفنون الجميلة نهاية العقد الخمسيني، والبكالوريوس ثم الماجستير في العام 1964 في (وارشو/ بولندا)، كانت له تجارب لافتة للنظر، بل أصبحت مرجعًا تشكيليا مهما، لذا
كان لـ (عبد الواحد سكران ساهي السلطاني) تجربة خاصة عن هذا الفنان من خلال الكتاب (محمد مهر الدين عظيم/ الإبداع المتجدد) والذي شارك فيه مجموعة نقاد لهم بصمتهم الواضحة في المجال النقد التشكيلي، وهم: (صلاح عباس، د.عاصم عبد الأمير، وجاسم عاصي، ود. جواد الزيدي، وخالد خضير الصالحي)، وهي التفاتة مهمة جدا
لما يمتلكه هذا الفنان من أثر فني مائز، بل يعد علامة من علامات الفن التشكيلي العراقي المعاصر مع أهم الأسماء الكبيرة، كالفنان فائق حسن وكاظم حيدر واسماعيل الشيخلي وخالد الرحال، وغيرهم.
كانت القراءات النقدية التي قدمت من قبل كل واحد منهم تعبر عن رؤية تحليلية خاصة، ولعل الحديث عن الفنان الكبير محمد مهر الدين، يعد أمراً يستلذ به كل من يتناوله، لأنه باختصار شديد ممتلئ بالأفكار (المضمونية) الحديثة التي تكون قابلة للتناول النقدي.
وأذكر أني زرت معرضه الشخصي في العام 2006 في قاعة أثر، نظرت إليه فوجدت ملامحه الحادة وهيبته الكبيرة، لم أتحدث معه كثيرا سوى سلامي له وترحيبه لي، غير أني وجدت نفسي قد تناولت هذا المعرض في مقال خاص، وأعد هذه اللحظة من أروع لحظاتي، التي أتابع فيها أهل الفن التشكيلي في العراق.
(محمد مهر الدين عظيم/ الإبداع المتجدد)، كتاب له أهميته الفنية من خلال القيمة الأبداعية في الكتابة النقدية عنه، وفي الّلوحات التشكيلية الخاصة
به التي تضمنه الكتاب، وللجهد التقديمي من قبل عبد الواحد سكران، الذي زامله في مرحلة التدريس في الفنون الجميلة، لذا كانت دراسة الناقد صلاح عباس (محمد مهر الدين/ رائد الحداثة في الرسم العراقي المعاصرة)، تنطوي على قراءة معاصرة لتجربته
ولعلاقته الشخصية به، وهي واحدة من أهم الالتقاطات التي تكرس حياة الفنان ومعرفة بعض التفاصيل الإبداعية والشخصية، ويمكن الإشارة إليها بوصفها نسقا ثقافيا إذا ماكانت هناك حفريات أخرى مضافة
ودقيقة.
أما دراسة الناقد عاصم عبد الأمير (محمد مهر الدين بين منطق التصميم ولا منطق الرسم)، تشير إلى أنه فنان مجدد (ويمثل أهم علامات التنوير في الرسم العراقي المعاصر)، ثم الإشارة إلى أنه فنان (أسطة)، و(يقدم نفسه كفنان مثقف)، ثم أشار إلى تقنيته الأسلوبية (بين الواقعية النقدية والمدرسة البنائية)، في حين كانت دراسة الناقد جاسم عاصي (جدار الفنان محمد مهر الدين/ الباحث عن المستقرات) منسرحة حلول مفهوم (الجدار) وكيفية انشاء الجدار تشكيليا، (فهو يتطلب مهارة يكتسبها الفنان من مرئيات مباشرة وغير مباشرة)، كما أشار عاصي إلى علاقة الفنان بواقعه وأحلامه، وبالمدينة، التي انعكست لوحاته فيها، وبظواهر الحروب، وما إلى ذلك.
وأوضحت دراسة الناقد جواد الزيدي (محمد مهر الدين/ بنية المجرّد وألفة القوى المتنازعة) على قراءة واسعة متداخلة بين التجربة الفنية والآيديولوجية لدى الفنان، وهي التفاتة ذكية جدا لما يحمله الموضوع من حساسية كبيرة مؤكدا بـ (نظرته للعالم الخارجي وموضوعاته التي تقترن بالناس وهموم الوطن، والقضايا الرئيسة، جاعلا بين الفعل السياسي والرسم موقفا أساسيا في قناعاته)، كما اشارت قراءة الزيدي عن تجربته إلى أنها (متحركة لا تقف عند حدود التعبير أو خصائص مذهب أو مدرسة فنية، أو أسلوب لتبدله المستمر والمقترن بتبدل حركية العالم)، وهي بلا شك نقطة مهمة جدا، لأن معاصرة وتعدد وتحول الأسلوب يقتضي قراءة الواقع ومتطلباته الجمالية المعاصرة.
وفي آخر قراءة نقدية في الكتاب كانت للناقد خالد خضير الصالحي (الرسم بدمٍ باردٍ)، مشيراً إلى المواقف والتقنية والأسلوب والتواصل والاتزان والتفاعلات المحيطية، وغيرها من التطبيقات النقدية في أعمال مهر الدين، وأعطت قراءة الصالحي تنويعات في تقنية الأداء التشكيلي كالجانب الهندسي مثلا، واستطاع أن يسلط الأنظار على هذه الثيمات بطريقة تحليلية واضحة.