تهشيم التاريخ في الرواية

ثقافة 2023/11/29
...

 أحمد الشطري

تنبني السرديات التاريخية في علم التاريخ على مرجعيات مختلفة تجمع بين السند الشفاهي والمدون التوثيقي، بالإضافة إلى ما توفره بحوث الأركيولوجيا (Archaeology)  باعتبارها العلم المختص في عمليات كشف وتحليل مخلفات الحضارة الانسانية ودراسة تطورها. وقد شكلت السرديات التاريخية بمختلف أشكالها وبما تحمله من مثيرات منجما ثريا للروائيين، الذين وجدوا فيها فضاء شاسعًا يسهم في تحفيز الخيال الإبداعي على خلق وبناء عوالم سحرية ذات قابلية كبيرة على تعزيز الخطاب الإبداعي، واحتضان الأفكار وتمثيلها بمختلف الصور، وبقوة فاعلة تسهم في جذب المتلقي وتحفيزه؛ لاستقبال الخطاب المتضمن والتفاعل معه فكريا وعاطفيا.
والعلاقة بين القص بمختلف أشكاله والسرديات التاريخية متشابكة ومتلاحمة، حتى يكاد يصعب في كثير من نماذجها الفصل بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، ورغم حرص الدراسات المنهجية للتاريخ على غربلة المرجعيات الوثائقية والاسنادية لتلك السرديات، إلا أنه من الصعب أو المحال تنقيتها من المتخيلات التي ساهمت بشكل وآخر في ملء بعض الفراغات، من أجل تحميلها بخطابات أيدولوجية معينة.
ومع ظهور الرواية بشكلها الحديث وجدت في المخزون السردي التاريخي البحر، الذي يمكن أن تغوص في أعماقه، وتستخرج منه كل ما هو مدهش ومثير، أو تسافر فوق أمواجه لتكتشف الجزر الحية لكي تبني عليها عوالمها الساحرة.
وقد تنوعت أساليب الروائيين في نسج متون رواياتهم، وفقا لتطور تقنيات البناء السردي، سواء من خلال السرد الروائي المباشر للتاريخ، أم من خلال تخليق حدث تاريخي عبر مخطوطة مفترضة، أم من خلال فرضيات الحلول والتنقل الشخصياتي بين الأزمنة.
كما تنوعت أزمنة الثيمات الروائية بين الماضي البعيد والمتوسط والقريب، وكل ثيمة زمنية لها خصائصها وطبيعة خطابها وغاياتها، وتنوعت كذلك الأساليب الفنية للسرد بين التقريرية والرمزية أو بين السرد الملتزم بواقعية الصورة التاريخية للحدث، وبين الفعل التهشيمي لصورة الحدث التاريخي.
إن طبيعة التعامل مع الثيم التاريخية خاضعٌ لرؤية الروائي وفلسفته الخاصة ومتبنياته الأيديولوجية، فقد يرى البعض من الروائيين ضرورة الحفاظ على صورة الحدث التاريخي وبنيته الواقعية، بينما يرى آخرون أنّ الروائي ليس مؤرخا، ومن ثمَّ فإن كل ما يبنيه من عوالم سردية هي خارج الزمن الواقعي، وبناء على ذلك فهو يمتلك كامل الحرية في تهشيم المبنى التاريخي، وبناء فرضياته التاريخية الخاصة، سواء تشابهت من حيث الشخوص والأحداث والأزمنة والأمكنة مع المدون التاريخي أم اختلفت، ومن غير الممكن ولا المفترض النظر إلى تلك المدونات الروائية كفعل تدويني للتاريخ؛ لأنها فعل تخيلي غير خاضع للمرجعيات الواقعية، بل هو خاضع لمرجعيات المخيلة الخلاقة للروائي، وبناء على ذلك فهو خارج دائرة الأمانة الأخلاقية للمدونين التاريخيين.
إن هذا المنطق الفرضي يبدو في كثير من الأحيان معرضا للانتهاك من قبل المتلقي الذي يتعامل في كثير من الأحيان مع الحدث الروائي كفعل واقعي، ومن ثمّ فهو يخضعه لمعتقداته الأيديولوجية، متخذا منه إذا ما اتفق معها مصدرا داعما لعقيدته، في حين ينظر إليه كفعل تحريفي مرتبط بغايات وأهداف تخريبية إذا ما اختلف مع تلك المعتقدات.
إن التعامل مع التاريخ روائيا في كثير من الأحيان يفرض على الروائي الحذر والتوجس كي لا يدخل ضمن دائرة الخطر أو المحرم، خاصة إذا كان الحدث التاريخي محملا بإشكاليات دينية أو سياسية، والتحريم هنا قد يكون في بعض الأحيان مشروعا أو مبررا إذا ما كانت غاية الخطاب الروائي تسويف أو تحريف القيم الجمالية للمجتمعات وعقائدها، وليس لتعزيز تلك القيم أو تعرية ما قبح منها، وهذه المشروعية أو التبرير ليس لقداسة ذلك المتبنى الديني أو السياسي أو الاجتماعي – على الأقل من وجهة نظرنا- بل لغائية الخطاب العبثية وانحرافية التعامل عن الخط الجمالي.  
في الروايات التي تصنف ضمن روايات السيرة لا بد من الالتزام الحرفي بواقعية الحدث أولاً، وأسلوب تدوينه ثانياً، ومثل هذه الروايات تفرض خلق علاقة تلاحمية بين شخصية المؤرخ، الذي يحرص على وثاقة الحدث، وشخصية الراوي الذي يملأ الفراغات التاريخية بالأفعال المتخيلة، التي لا تتعارض مع أخلاقية الوثيقة
التاريخية.
ومثل هذه الروايات هي جزء من البناء التاريخي وليست جزءا من الروايات التي تنفتح على فكرة تهشيم التاريخ.
ويمكن أن نعد روايات «اسم الوردة» لإمبرتو إيكو ورواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز و»مذكرات هادريان» لمارجريت يورسنار، و»الطبيب» لنوح جوردن، و»دعائم الأرض» لكين فوليت، وغير هذه من الروايات التاريخية من أهم الروايات الأجنبية التي اشتغلت على فكرة تهشيم التاريخ، وخلق تاريخ متخيل يستثمر واقعية الزمان والمكان والشخوص في صياغة حبكات درامية محملة بالمعطيات الإمتاعية والفكرية.
في حين يمكن أن نعد روايات «موت صغير» لمحمد حسن علوان، و»النبطي» ليوسف زيدان، و»ثلاثية غرناطة» لرضوى عاشور، و»حدائق النور» لأمين معلوف، وغيرها من الروايات العربية التي استثمرت هذه الفكرة في مروياتها.
كما يمكن أن نعد روايات الجريمة، الفن وقاموس بغداد لعلي بدر ومنازل الحارة 17 لرغد السهيل وطوفان صدفي لسعدي عوض الزيدي، وغيرها من الروايات العراقية التي اشتغلت على فكرة تهشيم التاريخ، وبناء مدونة تاريخية افتراضية تستمد حوادثها من مخيلة الروائي، وفي الوقت ذاته تستثمر واقعية الشخوص والمكان والزمان كمعطى ساند لتعزيز المقصد الاقناعي للخطاب، أو تنمية البناء السردي.