باسم عبد الحميد حمودي
منذ ديوانه الأول (اليد تكتشف) في التسعينيات والشاعر يصيب قارئه بصدمات متوالية، نفسيَّة، لغويّة، ذهنية.. لأنه لا يكتب الشعر من أجل تصنيع الكلمة والجملة الشعريّة، بل لكي يثير الذهن في أمر هذا الشعر المرسوم.. المحكي نثرا شعريا على الورق.
قد أكون هنا لم أوفق في أيصال الفكرة كاملا، ذلك أن اللغة النقدية تتغضن أحيانا في غمرة تحولات الشاعر وهو يعيش دنياه التي جرته إلى تحولات جذرية أبرزها سواد الليل في السجن.
عبد الزهرة أساسا يتقن لعبة الحواس منذ (اليد تكتشف) حيث استخدم اليد متنا لقدرات الإنسان، ووسيلة حسية مباشرة ليقظة العقل المتوجس.
وحين دخل السجن، وجده عالما من سواد فجر في داخله لا أسى الإنسان من ظلم الآخر، بل اكتظاظ روحه بالنكوص والهجرة إلى دخيلة النفس والروح الشفافة التي سلبت حريتها فكانت تجربتا (في هذه الحديقة السوداء) يقابلها بعد سنوات من التأمل والعناية المفرطة باللغة (حينما تمضي حرا) وصولا إلى تجربة (واقف في الظلام).
كل تجارب عبد الزهرة زكي تتعايش مع الحواس برقة وتفيد منها شعريا برهافة.. وسط جو لا يحمل من البراءة إلا جوهرها وهو يتلظى ويتجوهر ألما وقدرة على اكتشاف ذلك الألم مصحوبا بالسواد الذي تعامل معه كحقيقة قائمة لدى إنسان الشاعر الذي عاش تاريخ السواد وواقعه منذ هوميروس وصولا إلى ملتون وأبي العلاء.
العمي هنا ليس عماء بصيرة، بل بصر، والأعمى عند عبد الزهرة زكي كامل الشكل والتجربة النفسية، أنه ينشد في(أندريا بوتشيللي): «في قلب الظلام/ في المنازل وفي البيوت/ وعلى اسرة الردهات/ وفي اليأس.. في نشدان المواساة من حكايات الديكاميرون/ في المقابر التي أغلقت أمام الموتى..» تجد «أن للفن والعلم من طاقة التخيل ما يجعلهما يريان ما لا يرى».
أنه النور الذي تدفق فجأة من أعماق مغن أعمى.. من بوتشيللي.. كان يغني من أجل الامل.
تجربة بوتشيللي كبيرة ومكتظة والنص المدون خصب الأداء، لكن هذه التجربة الإيجابية تعد جزءا من أداء محير، ففي نص (جواب الأعمى) ينشد الشاعر: «منذ متى فقدت الرؤية/ لم أفقدها، لم أمتلك الرؤية حتى أفقدها/ في العادة نحن نفقد ما نملك».
وهو هنا لا يحتج، بل يسرد رؤيا فلسفية مؤلمة، وهو يغوص في نبض العالم وشقاء إنسانه عبر التاريخ.
الظلام عند عبد الزهرة زكي راحة وإعادة اكتشاف العالم عبر تأمله من جديد خارج أطار نوره المثقل بالجرائم داخلا في سواد ليل المعنى ليكتب نصه المهم (سيرة الأعمى وقد رأى كل شيء).
الشاعر هنا يقدم تجربة شعرية استثنائية تتكون من لوحات متعددة تصنع صورة أعماه.. الأعمى الذي رأى كل شيء.. وسط عمى العالم وهو يتشظى ويذبح بعضه بعضا.