لا تستغرب من بساطة العنوان، الشعر لغة مشتركة، نعم هذا هو ما يحصل باعتبارنا بشراً، ولكن المفارقة، أننا لسنا جميعا مشتركين في قول الشعر، من هنا يبدأ المشكل، الشعر لغة مشتركة، عندما يكون الكلام مشتركًا، هذه أولى الخطوات التي تؤدي بنا لاجتياز عتبة العنوان، ولكن الكلام المشترك بيننا،لا يولد الشعر، بل يحتويه، وهذه هي الخطوة الثانية عندما نكتشف أن كلامنا اليومي يحتوي الشعر، شأنه شأن المعادن الثمينة، لاتوجد لذاتها، بل هي في خلائط المواد، وعلى درجة من التمويه، بحيث تتطلب تنقيبا، وتنقية، وتصفية، ومن ثم عزلا عن بقية الشوائب، البشر أنفسهم وهم يتكلمون، يحتوي كلامهم شعرا، لكن ليس كل البشر شعراء، الشعر معدن يكمن في اختلاط العجائن، تجد في غنائية الكلام الشعبي الكثير من الماء الذي يقربك من المشاركة، بينما يكون كلام الأخر منفرًا يبعدك عن التفكير بالشعر، هي إذا هذه الطاقة الشعرية العفوية التي يحتويها الكلام اليومي ،الطاقة المبثوثة في تفاصليه، وغالبا ما تحتاج إلى خبير لاستخراجها من موادها الأولية ومن ثم تنقيتها، وتقنيتها، لحين صياغتها بلغة مغربّة عن الكلام اليومي، هل أخطأ نقادنا الأقدمون من تسمية الشعر صناعة؟ أبدًا هذا فاليري يقول المبدأ نفسه” الشعر باعتباره صناعة:” ويقول أيضا” لا يعني الشعر لي شيئا، لا أشتغل به تقريبا، ولكن فجأة ينشأ، لا أعلم أي ظرف، .. اجد نفسي في حالة حيث تطربني الكلمات”. ويقول الشعر عزلة يبتعد عن ضجيج الكلمات.
إلا أن المشكل يزداد تعقيدا، إذا فهمنا أنه صناعة فقط، فقد يكون شاعرًا ماهرًا يجيد صناعة الصور الشعرية، إلا أنه يوظفها لغير الشعر، خاصة إذا تشبع الكلام اليومي بالنثرية، والفنتازيا، والغرائبية، عندئذ يبتعد عن المجتمع، عن القضايا التي يهتم بها الكلام اليومي، عن قياس الجودة في القول، عن المعالجة الفنية لما يرى ويحس ويشعر ويتصور ويفكر، ومع ذلك فغنى الكلام اليومي ما يجعله يستخرج لنا القصة والحكاية والرواية والقصيدة
والمقالة، فالكلام اليومي يشبه الجسد الإنساني فيه تطوى كل المعارف والعلوم، ومن داخله وخارجه نقف على مجمل التيارات الفلسفية في الحياة، والجسد بغناه، هو التكوين المشترك بين الكائنات الحية، ربما يكون أكثر فاعلية من الكلام في اختلاق الشعر، لكنه يعجز عن التعبير بلغة عامة، مألوفة، كل تشكيللات الجسد مغايرة بين جسد وآخر كذلك، كل الكلام اليومي يقال بأشكل مختلفة، لكنه خزين للفنون والافكار والفلسفة والمواقف والعلاقات والتبادل والعيش، ومنه، وبهذه الطاقة اللفظية االشاملة، نجد الشاعر يمسك منخلا كونيا ليغربل الكلام اليومي، كما لو كان يستخرج عروق الذهب من أكوام التراب.
الصورة التي تقربنا من الشعر كصناعة متقدمة على كل الصناعات، هي الرؤية القصدية لأنفسنا، فعندما نعي أننا نرى أنفسنا كذات خلاقة للصور الشعرية، نغور في تركيبة هذه الذات، فنجدها منشطرة، إلى كائن يعيش، وكائن يفكر بطرائق العيش، يؤكد علماء النفس أن انفصالنا عن ذواتنا تجعلنا مراقببين لأنفسنا، الشعر يستقر في الإنفصال، لا يتكون الشعر إلا عندما تكون ذاتك الأخرى محورا له، يتكون الشعر عندما تصور نفسك انك آخر، وعندئد تخلق مسافة بين ما تقوله ككلام يومي، وما تقوله كشخص آخر يفكر في الاشياء. فالشاعر ليس أنا الذي يكتب ما يقوله، الشاعر هو الذي يملي علي ما أكتب، لأنه كائن آخر انفصل عني، وبدون هذا التركيب بين الانا، والهو، لن نستطيع كتابة ما نريده، بل نكتب ما يراد منا كتابته.
يتمرد الشعر على أنا القائل ويلتصق بأنا المهووس بالأشياء، الشاعر كائن يسكن لاوعينا المعرفي، الذي يعيد تشكيل العالم في صور مادتها تغريب الكلام اليومي، الشعر جزء من كلام الآلهة التي نستبطنها في أجسادنا. ولذلك حذف الشعراء من جمهوريات الملوك والأنبياء والفلاسفة .
يقع الشعر في المنطقة الجدلية، منطقة “المابين” بين الرياضيات والفلسفة، كلاهما تجريد، وعندما يكون التفكير العلمي رياضيًا، يكون التفكير الفلسفي سؤالا تأمليًا، العالم صناعة الأثنين، تأمل في التكوين، واحتساب نسب هذا التكوين، لذلك يأتي الشعر حاملا بـ “المابين” إيقاعات غير مدونة، تلك التي ترتبط بتكوين العالم، وليس باللغة المغناة المنطوقة وحدها، وايقاعات الشعر كارتباط بكونية الخلق، وإلا لم يكن الشيء الجميل منتظماً، حتى لو لم تتعرف على قوانين انتظامه. عندما يقال الشعر صناعة، يحتم علينا أن نجد أولا الآليات التي تغربل المواد الخام للكلام اليومي لاستخراج لغة الشعر، وعندما نتمكن من ذلك، تكون مماشي الطرق إليه صناعة رياضية منتظمة بعيدة عن العقل، متخمرة في الخيال، مستخرجة اللغة التي تنسجم وايقاعات العالم.
لا يستشهد بالشعر كوثيقة، الشعر لايستشهد به، لأنه في قول شاعره، له ايقاعاته وأغراضه الخاصة لرؤيته للعالم، وفي قول مستعمله له أغراضه الخاصة، في اثبات او نفي حال جزئية. الشعر لايوظف كوثيقة، وعندما اعتمدته الرواية العربية للتدوين، خاصة قواميس اللغة، لم تأخذ الشعرية فيه، بل جردته منها، واخذت نظامه النحوي والبلاغي، ودلالته القاموسية المفردة ،هذه البنية الوصفية ليست شعرية. لذلك لا تصلح كلمات القواميس أن تكون مصطلحات نقدية أو فكرية، أو حتى اسنادها، والاستدلال بها كشواهد ينصب على بنيتها النحوية والدلالية، ولم أجد شخصياً أن استقامة لمفهوم نقدي من داخل قول شعري، بقدر ما استقام القول الشعري من داخل المفهوم
النقدي.